الديوان : قصائد وشعر نزار قباني . الشاعر/الكاتب : نزار قباني

(51)

فكّرتُ أمس.. بحبّي لكِ..

وأحببتُ التفكيرَ بتفكيري..

تذكّرتُ فجأةً..

قَطَراتِ العَسَل على شفتيكِ

فلحستُ السُكَّرَ عن جدران ذاكرتي..

(52)

أرجوكِ أن تحترمي صمتي..

إنَّ أقوى أسلحتي هو الصمتْ.

هل شعرتِ ببلاغتي عندما أسكت؟

هل شعرتِ بروعة الأشياء التي أقولها؟

عندما لا أقولُ شيئاً..

(53)

عندما ركبتِ معي..

(تِلفرِيك) جونيه..

وانزلقتْ المركبةُ بنا على رؤوس الشجرْ..

وأكواز الصنوبرْ..

وصواري السفن..

شعرتُ أنّني ورثتُ العرشَ فجأة..

وخطر لي أن أتزوّجك

في هذه الغرفة الزجاجيّة

المتدحرجة على الغيم.. كفندقٍ صغير

وأن يكون شاهدَ عُرْسِنا الوحيدْ

هو الله..

(54)

علاّقةُ المفاتيح الذهبيّة

التي أهديتنيها..

لا تفتحُ باباً واحداً

من أبوابك الحجريّة

وإنما تفتحُ..

أبوابَ جُروحي..

(55)

لماذا تطلبينَ منّي أن أكتبَ إليكِ؟

لماذا تطلبين منّي

أن أتعرّى أمامكِ كرجل بدائيّ؟

الكتابةُ هي العملُ الوحيدُ الذي يعرّيني.

عندما أتكلّم..

فإنني أحتفظ ببعض الثياب

أما عندما أكتب..

فإنني أصير حرّاً ، وخفيفاً

كعصفور خرافيٍّ لا وزن له..

عندما أكتب..

أنفصل عن التاريخ.. وعن جاذبيَّة الأرض..

وأدورُ ككوكبٍ..

في فضاء عينيك..

(56)

المتعاملُ معكِ..

كالمتعامل مع طيّارة وَرَقْ..

كالمتعامل..

مع الريح، والصُدْفة، ودُوار البحر.

لم أشعر معكِ في يوم من الأيام

بأنني أقف على شيء ثابت..

وإنما كنتُ أتدحرجُ..

من غيمة.. إلى غيمة

كالأطفال المرسومين على سقوف الكنائس.

(57)

إنزعي الخنجرَ المدفونَ في خاصرتي

واتركيني أعيش..

إنزعي رائحتَك من مسامات جلدي

واتركيني أعيش..

إمنحيني الفرصة..

لأتعرّف على امرأة جديدة

تشطب اسمَكِ من مفكّرتي

وتقطعُ خُصُلاتِ شعرك

الملتفّة حول عنقي..

إمنحيني الفرصة..

لأبحث عن طُرُقٍ لم أمشِ عليها معكِ

ومقاعد لم أجلس عليها معكِ..

ومقاهٍ لا تعرفكِ كراسيها..

وأمكنةٍ ..

لا تذكركِ ذاكرتُها.

إمنحيني الفرصة..

لأبحث عن عناوين النساء اللواتي

تركتٌهنّ من أجلك..

وقتلتُهنّ من أجلك

فأنا أريد أن أعيش..

(58)

كلّما ضربَ المطرُ شبابيكي..

أتلمّس مكانكِ الخالي..

كلّما لَحَسَ الضبابُ زجاجَ سياّراتي

وحاصرني الصقيع..

وتجمّعت العصافير

لتنتشل سيّارتي المدفونة في الثلج

أَتذكّر حرارةَ يديكِ الصغيرتين..

والسجائر التي كنا نقتسمها

كالجنود في خنادقهم..

نصفٌ لكِ ..

ونصفٌ لي..

كلما علكت الرياحُ ستائرَ غرفتي

وعلكتْني..

أتذكر حبَّكِ الشتائي..

وأتوسّل إلى الأمطار

أن تُمطِرَ في بلادٍ أخرى

وأتوسّلُ إلى الثلج

أن يتساقطَ في مُدُنٍ أخرى

وأتوسّل إلى الله

أن يلغي الشتاء من مفكّرته

لأنني لا أعرف..

كيف سأقابل الشتاء بعدك..

(59)

الطائرة ترتفع أكثرَ .. وأكثرْ..

وأنا أحبّكِ أكثرَ .. وأكثرْ..

إنني أعاني تجربةً جديدة

تجربةَ حبّ امرأة على ارتفاع ثلاثين ألف قدم.

بدأتُ الآن أفهم الصوفيّة

وأشواقَ المتصوّفين..

*

من الطائرة..

يرى الإنسانُ عواطفه بشكل مختلف

يتحرّر الحبُّ من غُبار الأرض

من جاذبيتها..

من قوانينها..

يصبح الحبُّ كرةً من القطن، معدومةَ الوزن.

الطائرة تنزلق على سجّادة من الغيم المنَّتف.

وعيناك تركضان خلفها..

كعصفوريْْنِ فضوليّينْ..

يلاحقان .. فراشة.

*

أحمق أنا..

حين ظننتُ أنّي مسافرٌ وحدي..

ففي كلِّ مطار نزلتُ فيه..

عثروا عليكِ..

في حقيبة يدي..

(60)

قبلَ أن أدخلَ مدائنَ فمك

كانت شفتاكِ زهرتيْ حَجَرْ

وقدحي نبيذٍ .. بلا نبيذْ

وجزيرتين متجمّدتين في بحار الشمالْ..

ويوم وصلتُ إلى مدينة فمك..

خرجت المدينة كلُّها..

لترشَّني بماء الورد

وتفرشَ تحت موكبي السّجادَ الأحمرْ

وتبايعني خليفةً عليها..