الديوان : قصائد وشعر محمود درويش . الشاعر/الكاتب : محمود درويش

يخيّل لي أن عمري قصير 
و أني على الأرض سائح 
و أن صديقة قلبي الكسير 
تخون إذا غبت عنها 
و تشرب خمرا 
لغيري، 
لأني على الأرض سائح! 
يخيل لي أن خنجر غدر 
سيحفر ظهري 
فتكتب إحدى الجرائد: 
"كان يجاهد" 
و يحزن أهلي و جيراننا 
و يفرح أعداؤنا 
و بعد شهور قليلة 
يقولون: كان! 
يخيل لي أن شعري الحزين 
و هذي المراثي، ستصبح ذكرى 
و أن أغاني الفرح 
وقوس قزح 
سينشدها آخرون 
و أن فمي سوف يبقى مدمّى 
على الرمل و العوسج 
فشكرا لمن يحملون 
توابيت أمواتهم! 
و عفوا من المبصرين 
أمامي لافتة النجم 
في ليلة المدلج! 
يخيل لي يا صليب بلادي 
ستحرق يوما 
و تصبح ذكرى ووشما 
وحين سينزل عنك رمادي 
ستضحك عين القدر 
و تغمز: ماتا معا 
لو أني، لو أني 
أقبّل حتى الحجر 
و أهتّف لم تبق إلاّ بلادي! 
بلادي يا طفلة أمه 
تموت القيود على قدميها 
لتأتي قيود جديدة 
متى نشرب الكأس نخبك 
حتى و لو في قصيدة؟ 
ففرعون مات 
و نيرون مات 
و كل السنابل في أرض بابل 
عادت إليها الحياة! 
متى نشرب الكأس نخبك 
حتى و لو في الأغاني 
أيا مهرة يمتطيها طغاة الزمان 
و تفلت منا 
من الزمن الأول 
_لجامك هذا.. دمي ! 
_و سرجك هذا.. دمي 
إلى أين أنت إذن رائحة 
أنا قد وصلت إلى حفرة 
و أنت أماما.. أماما 
إلى أين؟ 
يا مهرتي الجامحة؟! 
يخيل لي أن بحر الرماد 
سينبت بعدي 
نبيذا و قمحا 
و أني لن أطعمه 
لأني بظلمة لحدي 
و حيدّ مع الجمجمة 
لأني صنعت مع الآخرين 
خميرة أيامنا القادمة 
و أخشاب مركبنا في بحار الرماد 
يخيل لي أن عمري قصير 
و أني على الأرض سائح 
و لو بقيت في دمي 
نبضة واحدة 
تعيد الحياة إليّ 
لو أني 
أفارق شوك مسالكنا الصاعدة 
لقلت ادفنوني حالا 
أنا توأم القمة المارده!!