الديوان : قصائد وشعر محمود درويش . الشاعر/الكاتب : محمود درويش

-1- 
سيل من الأشجار في صدري 
أتيت.. أتيت 
سيروا في شوارع ساعدي تصلوا. 
و غزة لا تصلي حين تشتعل الجراح على مآذنها. 
و ينتقل الصباح إلى مونئها، و يكتمل الردى فيها 
أتيت.. أتيت 
قلبي صالح للشرب 
سيروا في شوارع ساعدي تصلوا 
و غزّة لا تبيع البرتقال لأنه دمها المعلّب 
كنت أهرب من أزقّتها ، 
و أكتب باسنها موتى على جميزة، 
فتصير سيّدة و تحمل بي فتى حرا. 
فسبحان التي أسرت بأوردتي إلى يدها!. 
أتيت.. أتيت 
غزّة لا تصلّي. 
لم أجد أحدا على جرحي سوى فمها الصغير . 
و ساحل المتوسط اخترق الأبد .. 
-2- 
لا توقفوني عن نزيفي ! 
ساعة الميلاد قلدت الزّمان، و حاولتني 
كنت صعبا_ حاولتني 
كنت شعبا حاولتني مرة أخرى.. 
أرى صفا من الشهداء يندفعون نحوي،ثم يختبئون في 
صدري و يحترقون. 
ما فتك الزمان بهم، فليس لجّثتي حدّ. و لكني 
أحسّ كأن كلّ معارك العرب انتهت في جثتي، 
و أودّ لو تتمزق الأيام في لحمي و يهجرني الزمان، 
فيهدأ الشهداء في صدري و يتفقون . 
ما ضاق المكان بهم، فليس لجثتي حدّ، و لكنّ 
الخلافة حصّنت سور المدينة بالهزيمة، و الهزيمة 
جدّدت عمر الخلافة . 
لا توقفوني عن نزيفي 
ساعة الميلاد قلدت الزمان و حاولتني 
كنت صعبا_ حاولتني مرة أخرى 
أرى صفا من الشهداء يندفعون نحوي 
لا أحد!.. 
و تقاسمتني هذه الأمم القريبة و البعيدة. 
كلّ قاض كان جزّارا 
تدرج في النبوءة و الخطيئة 
و اختلفنا حين صار الكل في جزء، 
زصار الجرح وردتنا جميعا 
و ابتعدنا .. 
إذهب إلى الموت الجميل _ 
ذهبت 
وحدي كنت 
قلتم: نحن ننتظر الجنازة بالأكاليل الكبيرة و الطبول، 
و نلتقي في القدس .. 
ليت القدس أبعد من توابيتي لأتهم الشهود 
و ما عليك! ذهبت للموت الجميل 
و مدينة البترول تحجز مقعدا في جنة الرحمن_ قلتم لي 
و طوبى للمموّل و المؤّذن.. و الشهيد! 
-4- 
تعب الرثاء من الضحايا 
و الضحايا جمّدت أحزانها 
أواه! من يرثي المراثي؟ 
لست أدري أيّ قافية تحنّطني، فأصبح صورة في معرض 
الكتب القريب . 
و لست أدري أيّ إحصائيّة ستضمّني.. 
يا أيّها الشعراء.. لا تتكاثروا ! 
ليست جراحي دفترا. 
يا أيّها الزعماء.. لا تتكاثروا! 
ليست عظامي منبرا 
فدعوا دمي_ حبر التفاهم بين أشياء الطبيعة و الإله 
و دعوا دمي_ لغة التخاطب بيا أسوار المدينة و الغزاة. 
دمي بريد الأنبياء. 
-5- 
و أعود من تلقاء نفسي.. 
ليت شبّاكي بعيد كي أرى أمي 
و ليت القيد أقرب كي أحس النبض في زندي 
و ليت البحر أبعد كي أخاف من الصحاري 
آه، ليت الشيء عكس الشيء كي تتآكل الأشياء في 
نفسي، و تأخذ صيغة الفرح الحقيقي 
ابتعدنا و اقتربنا و ابتعدنا 
يا أهالي الكهف قوموا و اصلبوني من جديد 
إنني آت من الموت الذي يأتي غدا 
آت من الشجر البعيد 
و ذاهب في حاضري_ غدكم 
أنا قشرت موج البحر زنبقة لغزة.. 
-6- 
الفناء 
و جدول يمتد من صدري عموديّا_ و تنحدر السماء 
رأيت رأي القلب_ ذوبني الضياء 
فصرت صوتا، و الحصى صار الصدى 
و تنفّس القبر القديم.. 
تحرّك الحجر.. استردّ دبيبه منكم 
أنا الأحياء و المدن القديمة 
حاولوا أن تخلعوا أسماءكم تجدوا يدي . 
و حاولوا أن تنزعوا أثوابكم تجدوا دمي . 
أو حاولوا أن تحرقوا هذي الخرائط تبصروا جسدي _ 
أنا الأحياء و الوطن الذي كتبوه في تاريخكم .. 
من جثتي بدأ الغزاة ،الأنبياء ،اللاجئون _ 
و الآن يختتمون سيرتهم لأبدأ من جديد. 
-7- 
تتحرّك الأحجار. 
ليس الرّب من سكان هذا القفر 
هذا ساعدي . 
تتحرّك الأحجار . 
ما سرقوا عصا موسى 
و إنّ البحر أبعد من يدي عنكم 
إذن، تتحرّك الأحجار 
إن طلعوا و إن ركعوا، و إن مرّوا و إن فرّوا_ 
أنا الحجر 
أنا الحجر الذي مسّته زلزلة. 
رأيت الأنبياء يؤجّرون صليبهم 
و استأجرتني آية الكرسيّ دهرا، ثم صرت بطاقة للتهنئات 
تغيّر الشهداء و الدنيا 
و هذا ساعدي. 
تتحرك الأحجار 
فالتّفوا على أسطورة 
لن تفهموني دون معجزة 
لأن لغاتكم مفهومة 
إن الوضوح جريمة. 
و غموض موتاكم هو الحق- الحقيقة . 
آه، لا تتحرك الأحجار إلأّ حين لا يتحرك الأحياء 
فالتفوا على أسطورتي! 
-8- 
لن تفهموني 
تخرج العذراء من ضلعي 
لن تفهموني 
ناهضا من قبركم 
و الأرض للشهداء _ 
أنهيت المغامرة الأخيرة و ابتدأت : 
هنا الخروج. هنا الدخول 
هنا الذهاب. هنا الإياب 
و لا مكان هنا 
أنا الزمن الذي لن تفهموني خارج الزمن الذي ألقى 
بكم في الكهف _ 
هذي ساعتي 
ينشق قبر ثم أنهض صارخا : 
لا توقفوني عن نزيفي 
لحظة الميلاد تسكنني ما الأزل، استريحوا في جراحي_ 
ها هو الوطن الذي يتجدّد. 
الوطن الذي يتمجّد. 
اقتربوا من الأشجار و ابتدئوا معي! 
-9- 
في غزة اختلف الزمان مع المكان 
وباعة الأسماك باعوا فرصة الأمل الوحيد ليغسلوا 
قدميّ 
أين المجدلية؟ 
وانهمرت كتابات كتابات 
و كان الجند ينتصرون ينتصرون 
كانوا يقرأون صلاتها 
و يفتّشون أظلفر القدمين و الكفين عن فرح فدائيّ، 
و كانوا يلحقون حياتها 
بدموع هاجر. كانت الصحراء جالسة على جلدي. 
و أول دمعة في الأرض كانت دمعة عربية. 
هل تذكرون مدوع هاجر_ أوّل امرأة بكت في 
هجرة لا تنتهي ؟ 
يا هاجر احتفلي بهجرتي الجديدة من ضلوع القبر 
حتى الكون أنهض 
يسكن الشهداء أضلاعي الطليقة 
ثم أمتشق القبور و ساحل المتوسط 
احتفلي بهجرتي الجديدة
هجرة لا تنتهي ؟ 
يا هاجر احتفلي بهجرتي الجديدة من ضلوع القبر 
حتى الكون أنهض 
يسكن الشهداء أضلاعي الطليقة 
ثم أمتشق القبور و ساحل المتوسط 
احتفلي بهجرتي الجديدة