الديوان : قصائد وشعر محمود درويش . الشاعر/الكاتب : محمود درويش

ليوم يجدّد لي موعدي، قلت للكرمل: الآن أمضي. 
و ينشر البحر بين السماء و مدخل جرحي 
و أذهب في أفّق ينحني فوقنا، و يصلّي 
لنا ،أو يكسّرنا. هذه الأرض تشبهنا 
حين نأتي إليها. و تشبهنا حين نذهب عنها. 
تركت ورائي ملامحها، و اسمها كان يمشي أمامي 
يسمي ملامحها و انفجاري. تركت سرير الولادة 
تركت ضريحا معدا لأي كلام.. 
تركت التي أوجعتها ذراعي. تركت التي أوجعتني يداها. 
تفتّش عن عاشق بعد خمس دقائق من هجرتي 
ليوم يجدّد لي موعدي، قلت للكرمل: الآن أمضي. 
تمرّ الرصاصة فوق جبيني، و تجمعني مثلما تجمع القبلة 
الشفتين 
و تولد رمّانة في الضخور التي دجّنتني، و تجعلني عاشقين 
بعيدا.. بعيدا. 
و ينتشر البحر بين السماء و مدخل جرحي 
تخيّلت أنك متّكئي 
و سئمت العلاقة بين المسامير و الخشبه 
و حين ترجلت عن قمّة الرمح و الجرح أمسكت شيئا 
فكان حذاء الحرس 
يكلمني هابطا هابطا.. 
منذ ذاك النهار المبكر أبحث عن موطىء القدمين 
و أتبع نهرا، و لا أتبع الموج 
هل أسترد زفيري!. 
يقاسمني عسكريّ جراحي 
و يحرسها كي ينال وساما 
و يمنعني من مواصلة الموت، يأخذ نصف جراحي 
و يترك نصفا لأمن الأمم. 
يهزّ أصابع كفيّ 
فتسقط ذكرى. 
رصاص قديم. 
صنوبرة. 
ثمر فاسد. 
تهمة. 
أسئلة 
يفتّش كفّي ثانية، فيصادر حيفا التي هرّبت سنبلة 
و يا أيّها الكرمل، 
الآن تقرع أجراس كل الكنائس 
و تعلن أنّ مماتي المؤقّت لا ينتهي دائما، أو ينتهي مرّة، 
أيّها الكرمل، الآن تأتي إليك العصافير من ورق 
كنت لا فرق بين الحصى و العصافير . 
و الآن بعث المسيح يؤجّل ثانية 
أيّها الكرمل، الآن تبدأ عطلة كل المدارس 
و تنشدني الآن فيروز 
و الآن نأخذ أنبوبة من حبوب تسيل الدموع ، 
فنبكي على جبل طائر 
أيّها الكرمل، الآن يجعلني ضابط آخر عرضة للخلود ! 
بعدنا عن الشجر. البحر فاصلة بيننا 
و ها نحن بين الطهارة و الإثم شيئان يلتحمان و ينفصلان 
كأن الأحبّة دائرة من طباشير 
قابلة للفناء و قابلة للبقاء. 
و ها نحن نحمل ميلادنا مثلما تحمل المرأة العاقر الحلما 
و ها أنت مئذنة الله حينا 
و قبّعة لجنود المظلاّت حينا 
و ها أنت يا كرملي كلّما 
جرّدتني الحروب من الأرض أعطيتني حلما. 
و ها أنا أعلن أن الزمان تغيّر: 
كانت صنوبرة تجعل الله أقرب 
و كانت صنوبرة تجعل الجرح كوكب 
و كانت صنوبرة تنجب الأنبياء 
و تجعلني خادما فيهم 
أيّها الكرمل المتشعب في كل جسمي 
لماذا تحملني كل هذي المسافات 
و البحر فاصلة بيننا؟ 
أوقفتني قتاة معبّأة بالدوالي 
و كانت تغنّي على طرق الشام: 
يا ليت دالية واحدة 
لم تسافر معي.. فأعود إليها 
قبّلتني فتاة لأني لفظت اسم كرملها في مكبرّ صوت، 
فجاءت إلى فندقي لتقول"أحبّك"، و التجأت 
لاسمه في ذراعي 
_و ماذا يقول الجبل؟ 
بكى قصب في الغدير 
و كان الغدير مرايا 
فلم ينطبق الجبل 
_و هل رحلوا؟ 
تصببت الريح من جبهتي 
فمسحت الرياح كما تمسحين العرق .. 
تذكرت أني نهضت صباحا 
و كانت شهادة ميلاد أمي قابلة للنقاش 
و كانت أناشيد أهلي العرب 
ترتب أمتعة اللاجئين . 
و تبني جسور العبور . 
و صارت فلسطين أقرب . 
فاختلف اللاجئون على موسم القمح و البرتقال 
أوقفتني فتاة معبأة بالدوالي 
و كانت تغّي على طرق الشام 
ياليت دالية واحدة 
لم تسافر معي.. فأعود إليها 
و سافرت _ 
يا أيّها الكرمل .البحر. و العشب. و النار 
يا ضخرة الفرح العائمة 
و صمّمت جلدي قميصا لأخفي آثار طعنتك النادمة 
فأنكرني العسكريّ 
و كنت على باب أمي هناك أنادي دمشق 
فتسمع نبض دمي حفيف صنوبرك المبتعد 
و تغسلني دجلة الخير حين أموت من الوجد شوقا إلى 
أرض بابل . 
و ها أنذا الآن 
حين دخلت إلى الجامع الأموي تساءل أهل دمشق: 
من العاشق المغترب؟ 
و كانت مياه الفرات و نافورة النيل تحذف آثار زنزانتي 
عن ضلوعي 
و حين وقفت على النيل يوما و شاطيء دجلة يوما 
تساءل كل الذين رأوا دهشتي 
من السائح المغترب ؟! 
تركت الحبيبة _لم أنسها_ في غروب الشجر 
تطرّز من زبد البحر منديلها و ضمادي 
توهمت أنّ السموات أبعد من يدها عن جبيني 
و أوهمّتها أن قلبي يصل 
و أن يدي تنتقل 
إلى جثّة ضائعة 
تركت الحبيبة _لم أنسها_ عند سفح الجبل 
تعير العصافير ألوانها 
و كانت يداها ينابيع من كل لون و ما اشتق منه 
و لكنني كنت أشعر أن الينابيع كانت معرّضة للجفاف 
و أنّ فمي ينتقل 
إلى لغة ثانية 
تركت الحبيبة لم أنسها 
تركت الحبيبة 
تركت .. 
أحبّ البلاد التي سأحب 
أحب النساء اللواتي أحب 
و لكن غصنا من السرو في الكرمل الملتهب 
يعادل كل خصور النساء 
و كلّ العواصم 
أحبّ البحار التي سأحبّ 
أحبّ الحقول التي سأحبّ 
و لكنّ قطرة ماء على ريش قبرّة في حجارة حيفا 
تعادل كل البحار 
و تغلسني من ذنوبي التي سوف أرتكب 
أدخلوني إلى الجنه الضائعة 
سأطلق صرخة ناظم حكمت 
آه.. يا وطني !..