الكاتب : محمود درويش أضيف بتاريخ : 14-09-2016

الحنينُ في شعر محمود درويش حاضر في كل أقواله واقتباساته، فقد لا تخلو قصيدة من قصائدهِ عن حنينهِ لوطنه أو لأمهِ أو لحبيبته، فقصائد حب محمود درويش وقصائدُ فراق محمود درويش وقصائد نسيان محمود درويش مغموسةٌ بالحنين، وقد تجلى ذلك في ديوان في حضرةِ الغياب حينَ وصفَ محمود درويش الحنين بأجمل وصف.

 

ونحنُ في موقع ادبنا اخترنا لكم أجملَ ما قال محمود درويش في وصف الحنين، وأرفقنا فيديو خاص بصوتِ محمود درويش نتمنى ان ينال اعجابكم، ونترككم الآن مع النص بقلم شاعرنا الكبير محمود درويش.

 

 

الحنين مسامرة الغائب للغائب والتفات البعيد إلى البعيد .

 

الحنين عطش النبع إلى حاملات الجرار، والعكس أيضا صحيح .

 

الحنين يجر المسافة وراء وراء، كأن التطلع إلى أمام، وقد سمي أملاً، خاطرةٌ شعرية ومغامرة .

 

فعلُ المضارع حائر متردد، وفعل الماضي الناقص معلق على سروةٍ وقفت خلف تلة،على ساقها الراسخة ، والتفت بأخضرها الداكن ، وأرهفت السمع إلى صوت واحد :

 

صوت الريح .

 

الحنين هو صوت الريح: وكلما توغلت في وحدتك ، كتلك الشجرة،أخذك الحنين برفق أمومي إلى بلده المصنوع من مواد شفافة هشة.

 

فللحنين بلد وعائلة وذوق رفيع في تصفيف الأزهار البرية .

 

وله زمن منتقىً برعاية إلهية ، زمن أسطوري هادئ ينضج فيه التين على مهل ، وينام فيه الظبي إلى جانب الذئب في خيال الولد الذي لم يشاهد المذبحة .

 

ويطوف بك الحنين، كدليل جنة سياحي، في أنحاء بلاده، ويصعد بك إلى جبل كنت تأوي إليه و تتمرغ في النباتات البرية ، حتى تتشرب مسام جلدك برائحة المريمية .

 

فالحنين هو الرائحة .

 

وللحنين فصل مدلل هو الشتاء: يولد من قطرات الماء الأولى على عشب يابس ، فيصعد زفرات استغانة أنثوية، عطشى إلى البلل، وعدٌ بزفاف كوني هو المطر. وعد بانفتاح المغلق على الجوهر، وحلول المطلق في ماهيّاتٍ....

 

هو المطر: كم من سنديانة هناك تشرئب إلى اثنين :أنتَ و هي.

 

تركضان تحت المطر ، بلا مظلة و بلا قبعة، سعيدين بفضيحة شريفة، سعيدين بنصف عُري .

 

تركضان ولا تعرفان إلى أين ، متحرّرين من الطريق و من الهدف .

 

فالحنينُ هدفهُ الوحيدُ هو ان يكون.

 

تلهثان معا من تعب لذيذ السبب، وتندسَّان في جوف سنديانة ضيق لا يتسع إلا لواحد. فتلتصق بك و تلتصق بها حتى تصيرا اثنين في واحد . وتعتصرك وتعتصرها فيسخن الماء عليكما وفيكما وتلهثان من الدفء، ولا تحتاج الشهوة إلى ذريعة المطر الذي أدخلكما الى مخدع السنديانة وانصرف. الحنين هو اختلاط النار بالماء.

 

وللحمى صفة أخرى هي الحنين.

 

في كل شتاء يوجعك فرح غائب،وتمشي تحت المطر واحداً في اثنين :أنت و من كُنْتَه في شتاء أخر.

 

 فتفتفت إلى نفسك كلاما لا تفهمه لعجز الذاكرة عن استعادة العاطفة السالفة ، ولقدرة الحنين على إضفاء مالم يكن على ماكان، كأن تصبح الشجرة غابة، والجحر حجلة، وكأن تكون سعيدا في زنزانة تراها أوسع من حديقة عامة، وكأن يكون الماضي واقفا في انتظارك غدا ككلب وفي.

 

 

الحنين يكذب ولا يتعب من الكذب لأنه يكذب بصدق، فكذب الحنين مهنة.

 

والحنين شاعر محبط يعيد كتابة القصيدة الواحدة مئات المرات.

 

وعجوز مازال يحبو لأنه نسي حركة الزمان و تحاشي النظر في المرآة.

 

الحنين هو التزوير البريء للوثائق لحماية مرجعية المنفيّ من الصدأ .

 

وهو الكلس الضروري لتلميع البيوت المهجورة.

 

لكن أحدا لا يحنُّ إلى وجع أو هلع أو جنازة.

 

الحنين هو اختصاص الذاكرة في تجميل ما احتجب من المشهد، وترميم شباك سقط دون أن يصل سقوطه إلى الشارع.

 

و الحنين قصاصُ المنفى من المنفيّ، وخجل المنفيّ من الإعجاب بموسيقى منفى وحدائق.

 

فأن تحنَّ يعني أن لا تغتبط بشيء، هنا ، إلا على استحياء .

 

لو كنت هناك – تقول – لو كنت هناك لكانت ضحكتي أعلى وكلامي أوضح.

 

فالحنين هو توق الكلمات إلى حيزها الأول حتى لو كانت غامضة وغريبة عن الجماعة .

 

لكنني – تقول لنفسك – أوثر الاغتراب في المنفى على الاغتراب في البيت، ففي المنفى ما يوجب ذلك.

 

لذلك تحن في الزحام إلى نفسك ، إلى خلوة للكتابة .

 

الكتابة اقتراب واغتراب ويتبادلان الماضي والحاضر.

 

ظمأ الكلمات إلى ماء يلمع في سراب الأسطورة، وانقلاب التشبيه على المشبه، وتمويه الواقع بالصورة ، بيدي الحنين الحريريتين تروض المسافة .

 

إذا تسقف سماءك بكواكب مستعارة ، وتمضي مع امرأة أخرى ، حقيقية، إلى غرفة دافئة، معافى من أسباب الحمى، ومن أنين متقطع لا يُكتم. فلصوت المطر على الزجاج هياج الرغبة.

 

فالحنينُ هو أن تُمطرَ شتاءاً كلمات.

 

ليس أكثر من هذا ليبزغ الضوء من ليل الجسد: سريرك سرك /ماضيك يأتي غدا/ على نجمة لاتصيب الندى/ بأذى .

 

تلقي برأسك على ركبتيها لتسمع إلى ما يقول الجسد الخالي من الحنين ، فقد خلقت حواء للتو، وللتو ولدتَ بلا ذاكرة .

 

فالحنينُ لا يمتلكُ ذاكرة.

 

أنتِ غدي وحاضري ولا أمس لي – تقول لها.

 

وتقول لك: أنتَ غدي و حاضري ولا أمس لي.

 

تنامان إثنين في واحد، ولا تحلمان بما هو أكثر من هذا.

 

فالحنينُ إلى امرأةٍ حقيقيةٍ واجب.

 

لم يسأل أحد منكما الآخر عن معنى الاسم، من شدة ما كان مجهولكما الشهي عاكفا على تأجيج الفتنة .

 

تفتنك وتفتنها .

 

وبعد أن تمتلكها وتمتلكك ، وتمتلئ بها وتمتلئ بك ، يناديك ما يناديها من أقاليم البعيد ، فتحنّ هي إلى ماضيها خلف الباب ، وإلى أغنية غير أٌغنيتك /

 

فالحنينُ هنا هو الحبٌّ.

 

الحنين إلى البداية، إلى الطريقة التي تمَّ بها إيلاج المفتاح في قفل الباب .

 

وإخفاء النظرة عن غايتها.

 

وإختيار المقعد وموسيقى الليل بعفوية مُتَمَرَّسة – وهو التمرين العاطفي على جس نبض الكون.

 

وهو، أي ذاك الحنين، استرجاع للفصل الأجمل في الحكاية : الفصل الأول المرتجل بكفاءة البديهة .

 

هكذا يولد الحنين من كل حادثة جميلة، ولا يولد من الجرح .

 

فليس الحنين ذكرى ، بل هو ما ينتقى من متحف الذاكرة .

 

الحنين انتقائي كبستاني ماهر، وهو تكرار للذكرى وقد صفيت من الشوائب. وللحنين أعراض جانبية من بينها :

 

إدمان الخيال النظر إلى الوراء ، والحرج من رفع الكلفة مع الممكن، والإفراط في تحويل الحاضر إلى ماض، حتى في الحب :

 

تعالي معي لنصنع الليلة ماضياً مشتركاً- يقول المريض بالحنين .

 

سآتي معك لنصنع غداً مشتركاً- تقول المصابة بالحبّ.

 

هي لا تحب الماضي وتريد نسيان الحرب التي انتهت .وهو يخاف الغد لأن الحرب لم تنته، ولأنه لا يريد أن يكبر أكثر .

 

فالحنينُ لا يؤمنُ بعدد السنين.

 

الحنين ندبة في القلب ، وبصمة بلد على جسد،  لكن لا أحد يحن إلى جرحه، لا أحد يحن إلى وجع أو كابوس، بل يحن إلى ماقبله، إلى زمان لا ألم فيه سوى ألم الملذات الأولى التي تذوّب الوقت كقطعة سكر في فنجان شاي، إلى زمان فردوسي الصورة .

 

والحنين نداء الناي للناي لترميم الجهة التي كسرتها حوافز الخيل في حملة عسكرية، هو المرض المتقطع الذي لا يُعدي ولا يميت، حتى لو اتخذ شكل الوباء الجمعي .

 

كُلنا مصابونَ بالحنين.

 

هو دعوة للسهر مع الوحيد، وذريعة العجزِ عن المساواة مع ركاب قطار يعرفون عناوينهم جيدا، وهو ما يجمع لأحلام الغرباء من مواد مصنوعة من شفافية اللاشيء الجميل، و يُحمِّص لهم بُنَّ اليقظة .

 

ونادرا ما يأتي صباحا.

 

ونادرا ما يتدخل في حديث عابر مع سائق تاكسي .

 

ونادرا ما يتطفل على قاعة المؤتمر، أو على الموعد الأول بين أنثى و ذكر.

 

هو زائر المساء، حين نبحث عن آثارك في ما حولك ولا تجدها، حين يحط على الشرفةِ دوريٌّ يبدو لكَ رسالة من بلد لم تحبه وأنت فيه، كما تحبه الآن وهو فيه .

 

كان معنىً وشجرة وصخرة ، وصار عناوين روح و فكرة ، وجمرةً في اللغة .

 

كان هواء وتراباً وماءً ، وصار إلى قصيدة.

 

فالحنينُ قصيدة ..!!

 

الحنين أنين الحق العاجز عن الإتيان بالبرهان على قوة الحق أمام حق القوة المتمادية .

 

أنين البيوت المدفونة تحت المستعمرات، يورثه الغائب للغائب، والحاضر للغائب، مع قطرة الحليب الأولى، في المهاجر والمخيمات .

 

الحنين صوت الحرير الصاعد من التوت إلى من يحن إليه في أنين متبادل .

 

هو اندماج الغريزة بالوعي و باللاوعي.

 

وشكوى الزمن المفقود من سادية الحاضر.

 

الحنين وجع لا يحن إلى وجع، هو الوجع الذي يسبه الهواء النقي القادم من أعالي جبال البعيدة، وجع البحث عن فرح سابق .

 

لكنه وجع من نوع صحي ، لأنه يذكرنا بأننا مرضى بالأمل، وعاطفيون !

 

 

 

مقتبس من ديوان " في حضرة الغياب - محمود درويش " .

شارك الخبر عبر مواقع التواصل

التعليقات