الديوان : قصائد وشعر غادة السمان . الشاعر/الكاتب : غادة السمان

والتقينا بعد طول فراق...

وبالرغم من ثقوب النفس المهترئة كجورب متسول،

وفئران الذاكرة التي قرضت أحلى ذكرياتنا،

بالرغم من بطارياتنا الخاوية..

وبطانتنا المتملقة.. وثيابنا المسرحية الناجحة..

وخطواتنا الاجتماعية المدروسة كخطى الدمى المتحركة..

بالرغم من رقصتنا المتقنة،

على شطرنج الانتصارات المحنطة..

عاد ذلك التيار الغامض،

ليسري بين نظراتنا..

والسيالات الروحية اللامرئية.

توحِّدنا بالتواصل الغامض الأكيد...

وعادت أصابعي تلثم يدك

في مصافحة الدهشة..

وعدنا كما كنا: طفلين في جبال لبنان..

يقتسمان النجوم والغابات،

ويتشاجران في غمرة القبلات،

التي يطبعها القمر على خدودهما المتوهجة بالأشواق.

***

كنت أظن أننا متنا جيداً، وبإتقان

ولم نعد نقرأ في دفتر الجنون والليل..

ولم نعد نطالع غير مفكرة مواعيدنا، ودفاتر شيكاتنا..

وفواتير علفنا وأقنعتنا وديكوراتنا..

وها نحن فجأة، ننهض من توابيتنا المكيفة بالأوكسجين

ونعود من غرفنا المبطنة بحرير السلامة، لنجهش ضحكاً..

ولنرقص من جديد على الحافات الحادة،

للمشاعر الغامضة تأججاً بجاذبيتها اللا أرضية الروحية.

آه أنت، متى انتهت قصتنا، ومتى بدأت؟

وأين تنتهي أنت وأين تبدأ حدودي؟...

وما الذي سأفعله في الماضي الآتي بدونك؟

وما الذي فعلناه في المستقبل الغابر؟

***

إذاً التقينا.. واستيقظت الغجرية في أعماقي

من سباتها الاجتماعي الطويل.. وعادت تخاطبها العناصر..

يناديني النهر الشهي: تعالي واغرقي.. لتتعلّمي

كيف تتنفسين ملء رئتيك...

تناديني البحار: تعالي من جديد إلى جزر الأسرار..

تناديني الريح: أنا صوت القارّات المجهولة...

ألم تفتقدي الرحيل إليها؟

تناديني الشمس: تعلّمي حكمة العصافير..

الإقامة في العش طقس عابر،

والطيران وحده هو الحقيقة...

تناديني عيناك،

وأنا أهرول في دهاليز متاهاتي

وتصدران إليّ أوامر شهية

لم يعد بمقدوري أن ألبيها...

كأن الحب الذي يستعصي على النسيان،

يستعصي أيضاً.. على التكرار...

***

لم أصدق يوماً لحظات كسوف حبنا...

ليس ثمة ما يشبه انفجاراتنا الضوئية

حين أمتلئ بحضورك بين دهر وآخر..

أحول حولك، مليئة بالنوايا السيئة للعشاق!..

وأترك غبار طلعك يغطي حقولي

لتنمو براعم حروفي... والفجر يتنهدك في صدري...

وحتى الموت، أكتبك بحبر الأشواق

في عتمة الأعماق،

مثل أخطبوط ينزف سواده الحبري

ليدافع عن أسرار دموعه.. وفضائح أحزانه..

آه كيف أحارب طواحين الهواء

- التي تنتصب في الأفق كلما التقينا -

بغير سيفي الورقي وتعاويذ حرفي؟

***

إذاً التقينا، وها أنا من جديد

أقلّب نظراتك

مثل نورس يقلّب دفتر المجرة

وأطالع أمزجتك وأحوالك

كمن يقرأ النجوم في ليلة صحراوية صافية

يرى المرء عبرها الأزلية،

ويكتشف معنى عبارة "إلى الأبد"..

وأتوغل في صمتك على رؤوس أصابعي

كي لا أفجّر ألغام الماضي المشحونة بالعواصف..

وأرحِّب بك في عمري

ترحاب غريبين في جزيرة خاوية...

وأحاول ألا يكون دوري في عمرك هذه المرة،

كدور خرساء... في مسرحية إذاعية!..