الديوان : قصائد وشعر نزار قباني . الشاعر/الكاتب : نزار قباني

1

مواطنون .. دونما وطن

مطاردون كالعصافير على خرائط الزمن..

مسافرون دون أوراق

وموتى دونما كفن.

نحن بغايا العصر .. كل حاكم

يبيعنا، ويقبض الثمن !!

نحن جواري القصر، يرسلوننا

من حجرة لحجرة

من قبضة لقبضة

من هالك لمالك

من وثن إلى وثن

نركض كالكلاب كل ليلة

من عدن لطنجة

من طنجة إلى عدن

نبحث عن قبيلة تقبلنا

نبحث عن عائلة تعيلنا

نبحث عن ستارة تسترنا

وعن سكن ..

وحولنا أولادنا

احدودبت ظهورهم، وشاخوا

وهم يفتشون في المعاجم القديمة

عن جنة نضيرة
عن كذبة كبيرة كبيرة ..

تدعى الوطن ..

2

مواطنون نحن في مدائن البكاء

قهوتنا مصنوعة من دم كربلاء

حنطتنا معجونة بلحم كربلاء

طعامنا. شرابنا

عاداتنا.. راياتنا

صيامنا. صلاتنا

زهورنا. قبورنا

جلودنا مختومة بختم كربلاء..

لا أحد يعرفنا في هذه الصحراء

لا نخلة. لا ناقة.

لا وتد.. لا حجر

لا هند.. لا عفراء

أوراقنا مريبة

أفكارنا غريبة

فلا الذين يشربون النفط يعرفوننا

ولا الذين يشربون الدمع والشقاء …

3

معتقلون ..

داخل النص الذي يكتبه حكامنا

معتقلون ..

داخل الدين كما فسره إمامنا

معتقلون..

داخل الحزن، وأحلى ما بنا أحزاننا

مراقبون نحن في المقهى .. وفي البيت ..

وفي أرحام أمهاتنا..

حيث تلفتنا، وجدنا المخبر السري في انتظارنا

يشرب من قهوتنا..

ينام في فراشنا..

يعبث في بريدنا

ينكش في أوراقنا

يدخل من أنوفنا

يخرج من سعالنا

لساننا مقطوع..

ورأسنا مقطوع..

وخبزنا مبلل بالخوف والدموع..

إذا تظلمنا إلى حامي الحمى

قيل لنا: ممنوع..

وإن تضرعنا إلى رب السما

قيل لنا: ممنوع ..

وإن هتفنا :

يا رسول الله، كن في عوننا

يعطوننا تأشيرة من غير ما رجوع

وإن طلبنا قلما

لنكتب الوصية الأخيرة

قبيل أن نموت شنقا

غيروا الموضوع..

4

يا وطني المصلوب فوق حائط الكراهية

يا كرة النار التي تسير نحو الهاوية

لا أحد من مضر .. أو من بني ثقيف

أعطى لهذا الوطن الغارق بالنزيف

زجاجة من دمه ..

أو بوله الشريف !!

لا أحد.. على امتداد هذه العباءة المرقعة ..

أهداك يوما معطفا أو قبعة ..

يا وطني المكسور مثل عشبة الخريف ..

مقتلعون نحن كالأشجار من مكاننا ..

مهجرون من أمانينا، وذكرياتنا

عيوننا تخاف من أهدابنا

شفاهنا تخاف من أصواتنا

حكامنا آلهة يجري الدم الأزرق في عروقهم

ونحن نسل الجارية

لا سادة الحجاز يعرفوننا ..

ولا رعاع البادية

ولا أبو الطيب يستضيفنا ..

ولا أبو العتاهية

إذا ضحكنا لعليّ مرة ..

يقتلنا معاوية ..

5

مهاجرون نحن من مرافئ التعب

لا أحد يريدنا

من بحر بيروت .. إلى بحر العرب ..

لا الفاطميون و لا القرامطة

و لا المماليك .. و لا البرامكة

و لا الشياطين و لا الملائكة

لا أحد يريدنا

في المدن التي تقايض البترول بالنساء،

والديار بالدولار، والتراث بالسجاد،

والتاريخ بالقروش، والإنسان بالذهب.

وشعبها يأكل من نشارة الخشب !!

لا أحد يريدنا ..

في مدن المقاولين، والضاربين، والمستوردين،

والمصدرين، والملمعين جزمة السلطة،

والمثقفين حسب المنهج الرسمي،

والمستأجرين كي يقولوا الشعر

والمقشرين اللوز، والتفاح للملوك،

والمقدمين للأمير عندما يأوي إلى فراشه

قائمة بأجمل النساء ..

والموظفين في بلاط الجنس ..

والمهرجين ..

والمخنثين ..

والمخوضين في دمائنا حتى الركب ..

لا أحد يقرؤنا

في مدن الملح التي تذبح في العام

ملايين الكتب ..

لا أحد يقرؤنا

في مدن..

صارت بها مباحث الدولة

عرّاب الأدب ..

6

مسافرون نحن في سفينة الأحزان

قائدنا مرتزق

وشيخنا قرصان

مكومون داخل الأقفاص كالجرذان

لا مرفأ يقبلنا

لا حانة تقبلنا

لا امرأة تقبلنا

كل الجوازات التي نحملها

أصدرها الشيطان

كل الكتابات التي نكتبها

لا تعجب السلطان ..

مسافرون خارج الزمان والمكان

مسافرون ضيعوا نقودهم ..

وضيعوا متاعهم، وضيعوا أبناءهم،

وضيعوا أسماءهم، وضيعوا انتماءهم ..

وضيعوا الإحساس بالأمان

فلا بنو هاشم يعرفوننا، ولا بنو قحطان

ولا بنو ربيعة، ولا بنو شيبان

ولا بنو لينين يعرفوننا .. ولا بنو ريغان ..

***

يا وطني: كل العصافير لها منازل

إلا العصافير التي تحترف الحرية

فهي تموت خارج الأوطان …

جنيف – تشرين الثاني نوفمبر 1985