الديوان : قصائد وشعر نزار قباني . الشاعر/الكاتب : نزار قباني

1

عيناك.. آخر مركبين يسافران

فهل هنالك من مكان ؟

إني تعبت من التسكع في محطات الجنون

وما وصلت إلى مكان ..

عيناك آخر فرصتين متاحتين

لمن يفكر بالهروب ..

وأنا .. أفكر بالهروب ..

عيناك آخر ما تبقى من عصافير الجنوب

عيناك آخر ما تبقى من نجوم الصيف

آخر ما تبقى من حشيش البحر،

آخر ما تبقى من حقول التبغ،

آخر ما تبقى من دموع الأقحوان

عيناك.. آخر زفة شعبية تجري

وآخر مهرجان..

2

عيناك.. آخر ما تبقى من تراث العشق

آخر ما تبقى من مكاتيب الغرام

ويداك .. آخر دفترين من الحرير ..

عليهما..

سجلت أحلى ما لدي من الكلام

العشق يكويني، كلوح التوتياء،

ولا أذوب..

والشعر يطعنني بخنجره

وأرفض أن أتوب..

إني أحبك..

يا التي اختزنت بعينيها بحيرات الجنوب

ظلي معي..

حتى يظل البحر محتفظا بزرقته

ويبقى الخوخ محتفظا بنكهته

ويبقى وجه فاطمة

يحلق كالحمامة تحت أضواء الغروب

ظلي معي .. فلربما يأتي الحسين

وفي عباءته الحمائم، والمباخر، والطيوب

ووراءه تمشي المآذن، والربى

وجميع ثوار الجنوب ..

3

عيناك آخر ساحلين من البنفسج

والعواصف مزقتني ..

فكرت أن الشعر ينقذني..

ولكن القصائد أغرقتني..

فكرت أن الحب يمكن أن يلملمني

ولكن النساء تقاسمتني..

أحبيبتي:

أعجوبة أن ألتقي امرأة بهذا الليل،

ترضى أن يرافقني..

وتغسلني بأمطار الحنان

أعجوبة أن يكتب الشعراء في هذا الزمان

أعجوبة أن القصيدة لا تزال

تمر من بين الحرائق والدخان

أعجوبة أن القصيدة لا تزال

تنط من فوق الحواجز، والمخافر، والهزائم،

كالحصان

أعجوبة.. أن الكتابة لا تزال..

برغم شمشمة الكلاب..

ورغم أقبية المباحث

مصدرا للعنفوان …

4

الماء في عينيك زيتيّ ..

رماديّ ..

نبيذيّ ..

وأشرعتي دموع

وأنا على سطح السفينة،

مثل عصفور يتيم

لا يفكر بالرجوع..

بيروت أرملة العروبة

والحواجز،

والطوائف،

والجريمة، والجنون..

بيروت تذبح في سرير زفافها

والناس حول سريرها متفرجون

بيروت..

تنزف كالدجاجة في الطريق،

فأين فر العاشقون ؟

بيروت تبحث عن حقيقتها ..

وتبحث عن قبيلتها..

وتبحث عن أقاربها..

ولكن الجميع منافقون..

5

عيناك.. آخر رحلة ليلية

وحقائبي في الأرض تنتظر الهبوب

تتوسل الأشجار باكية لآخذها معي

أرأيتم شجرا يفكر بالهروب؟

هذا هو الزمن المضرج بالبشاعة، والفضائح،

والخيانة، والذنوب..

هذا هو الزمن الذي فيه الثقافة،

والكتابة،

والكرامة،

والرجولة في غروب

كيف الدخول إلى القصيدة يا ترى؟

ودفاتري ملأى بآلاف الثقوب..

وقميصي العربي مملوء بآلاف الثقوب ..

النفط يستلقي سعيدا تحت أشجار النعاس

وبين أثداء الحريم ..

هذا الذي قد جاءنا

بثياب شيطان رجيم …

النفط هذا السائل المنويّ ..

لا القوميّ ..

لا العربيّ ..

لا الشعبيّ ..

هذا الأرنب المهزوم في كل الحروب

النفط مشروب الأباطرة الكبار،

وليس مشروب الشعوب..

6

كيف الدخول إلى القصيدة يا ترى؟

والنفط يشري

ألف منتجع بماربيا ..

ويشري نصف باريس ..

ويشري نصف ما في نيس من شمس وأجساد..

ويشري ألف يخت في بحار الله

يشري ألف امرأة بإذن الله ..

يشري ألف غانية لعوب

لكنه ..

لا يشتري سيفا لتحرير الجنوب..

7

عيناك.. آخر ما تبقى من شتول النخل

في وطني الحزين

وهواك أجمل ثورة بيضاء ..

تعلن من ملايين السنين

كوني معي امرأة ..

يغطي وجهها وجه الصباح

كوني معي شعرا

يسافر دائما عكس الرياح ..

كوني معي غجرية، بدوية، وحشية

كوني معي جنية

لا يبلغ العشاق ذروة عشقهم

إلا إذا التحقوا بصف الغاضبين ..

أحبيبتي:

إني لأعلن أن ما في الأرض من عنب وتين

حق لكل المعدمين

وبأن كل الشعر .. كل النثر ..

كل الكحل في العينين ..

كل اللؤلؤ المخبوء في النهدين ..

كل العشب، كل الياسمين

حق لكل الحالمين ..

كوني معي ..

ولسوف أعلن أن شمس الله،

تشبه في استدارتها رغيف الجائعين

ولسوف أعلن دونما حرج

بأن الشعر أقوى من جميع الحاكمين…

بيروت 21/10/1984