الديوان : قصائد وشعر نزار قباني . الشاعر/الكاتب : نزار قباني

(96)

أكتب إليكِ من لينغراد. عاصمة القياصرة.

درجة الحرارة صفر. وأنا ألبسك على جسدي كنزةً من الحنان.. واتدفَّأ بكِ كما تتدفَّأ كنيسةٌ بشموعها..

يُريحني أن ألبسَكِ على جسدي، فأنتِ حَطَبي وفحمي في هذه القارَّة المرتعشة المفاصل.

قضيتُ اليوم كلَّه في متحف الهيرميتاج.

كلُّ متاحف العالم تبدو أكواخاً فقيرة من القشّ أمام هذا المتحف الخرافة، حتى اللوفر العظيم يغطِّي وجهه بيديه مختجلاً إذا ذُكر اسمُ الهيرميتاج.

ألفا غرفة تضمّ أروع وأثمن ما صنعته أصابع البشر، جمعها القياصرة قطعةً قطعةً من كلّ زاوية من زوايا الأرض.

كلُّ مصوّري العالم ونحّاتيه يتنفّسون في غرف الهيرميتاج ويتحدّثون مع الزوّار..

الهيرميتاج هو فندق كلّ عباقرة العالم.. فيه ينامون.. وفيه يرسمون .. وينحتون...

هنا وطن الفنّانين.. فلوحات رينوار، وماتيس، وفان غوخ ، وغويا، والغريكو، وروبنس، الموجودة هنا أعظم من آثارهم الموجودة في بلادهم الأصلية.

زرتُ الجناح الخاص بالامبراطورة كاترينا الثانية. رأيت ملابسها، وجواهرها، وأمشاطها، وخواتمها، وأثواب نومها المطرّزة بالذهب، ومعاطفها المشغولة بالحجارة الثمينة.

في لحظة من لحظات الحلم تصوَّرتك كاترين الثانية..

وأردتُ أن أُخرج جميع ما في الخزائن البللورية من عقود وأساور وأطرحها على قدميكِ.. يا قيصرةَ القياصرة..

في لحظة من لحظات الشرود، تصوّرت أن المتحف متحفك، والتيجان تيجانك، والوصيفات وصيفاتك..

وأنكِ تركبين العربة الملكيّة الموشّاة بالذهب وأحجار الياقوت والزمرّد.. وتنزلقين على ثلوج لينغراد.

هل تسمعين صوتي، وأنا أهتف مع الرعايا المتناثرين على أرصفة لينغراد (حفظ الله الملكة).

أنا واحدٌ من رعاياكِ يا قيصرة القياصرة.

أنا مواطنٌ يُحبّكِ..

على سواحل بحر الشمال تلتفّ ذراعي حول خصرك بحركة تلقائية..

على كلّ البحار أنت متمدّدة..

وعلى سطوح كلّ المراكب أنت مستلقية..

سمك منتشر في شراييني كبقعة حبر على ثوب أبيض..

ونهدك يطيعني كما تطيع التفاحة جاذبية الأرض..

إنفصالي عنكِ خرافة..

فنحن نسقط إلى الأعلى، نتدحرج إلى ذروة الشمس، يمسح الواحدُ منا حدودَ الآخر.. يُلغيه..

حين تكونين معي. يكون واحدٌ منّا فقط، ينتهي واحدٌ منّا. يصير صوتكِ امتداداً لفمي، وتصير ذراعي امتداداً طبيعياً لذراعك.. ويصير شعركِ الأسود امتداداً لأحزاني.

إنفصالي عنكِ خرافة..

(98)

فنحن نسقط إلى الأعلى، نتدحرج إلى ذروة الشمس، يمسح الواحدُ منا حدودَ الآخر.. يُلغيه..

لستُ نادماً على أعوامي الضائِعةِ معكِ..

لستُ نادماً على أعوامي الضائِعةِ معكِ..

حين تكونين معي. يكون واحدٌ منّا فقط، ينتهي واحدٌ منّا. يصير صوتكِ امتداداً لفمي، وتصير ذراعي امتداداً طبيعياً لذراعك.. ويصير شعركِ الأسود امتداداً لأحزاني.

حين تكونين معي. يكون واحدٌ منّا فقط، ينتهي واحدٌ منّا. يصير صوتكِ امتداداً لفمي، وتصير ذراعي امتداداً طبيعياً لذراعك.. ويصير شعركِ الأسود امتداداً لأحزاني.

فأنا لا أحترفُ الندامة.

فأنا لا أحترفُ الندامة.

ولستُ آسفاً ..

لأنني لعبتُ على حصانٍ خاسرْ..

إن المقامرة على النساء.. كالمقامرة على الخيولْ..

غيرُ مضمونة النتائج..

ولا تصدُقُ فيها النُبُوءاتْ..

فكلُّ رجل ينتقي فَرَساً..

وكلُّ امرأة تنتقي جواداً..

ولا يربح في نهاية الشوط..

سوى النساءْ..

*

إن تجاربي مع الخيل والنساء.. متشابهة..

أربحُ مرةً.. وأخسرُ مرّاتْ..

أنتصرُ مرةً.. وأُهزم مرّاتْ..

ورغم هذا أستمرُّ في اللعبة..

وأجدُ في ممارستها الكثير من الشعرْ..

فلا أجمل من السقوط المفاجئ..

تحت حوافر الخيلْ..

أو تحت حوافر الحُبّ..

(99)

إطمئني يا سيّدتي!

فما جئت لأشْتُمَكِ،

أو لأشنقَكِ على حبال غَضَبي

ولا جئتُ، لأراجع دفاتري القديمة معكِ

فأنا رجلٌ ..

لا يحتفظ بدفاتر حبّه القديمة..

ولا يعود إليها أبداً..

لكنني جئتُ لأشكرك..

على زهور الحزن التي زرعتها في داخلي

فمنكِ تعلّمتُ أن أحبَّ الزهورَ السوداءْ..

وأشتريها..

وأوزّعها في زوايا غرفتي.

*

ليس في نيّتي،

أن أفضح انتهازيّتكِ..

أو أكشف الأوراق المغشوشة

التي كنتِ تلعبين بها.. خلال عامينْ..

لكنني جئتُ لأشكرك..

على مواسم الدمع..

وليالي الوجع الطويلة..

وعلى كلّ الأوراق الصفراء

التي نثرتِها على أرض حياتي..

فلولاكِ، لم أكتشفْ

لذّةَ الكتابة باللون الأصفرْ

ولذّةَ التفكير..

باللون الأصفرْ..

ولذّةَ العشق باللون الأصفرْ..

(100)

هذه هي رسالتي الأخيرة..

ولن يكون بعدها رسائلْ...

هذه.. آخرُ غيمةٍ رماديةٍ

تمطر عليكِ..

ولن تعرفي بعدها المطرْ..

هذا آخرُ النبيذ في إنائي..

وبعده..

لن يكون سُكْرٌ.. ولا نبيذْ..

هذه آخرُ رسائل الجنونْ..

وآخرُ رسائل الطفولة...

ولن تعرفي بعدي، نقاءَ الطفولة، وطرافة الجنونْ..

لقد عشقتُكِ..

كطفلٍ هاربٍ من المدرسة..

يخبئ في جيوبه العصافير..

ويخبّئ القصائدْ..

كنتُ معكِ..

طفلَ الهلوسة، والشرود، والتناقضاتْ..

كنتُ طفلَ الشعر، والكتابة العصبيّة

أما أنتِ..

فكنتِ امرأةً شرقيّةَ الشروشْ

تنتظر قدَرَها..

في خطوط فناجين القهوة..

وملاءات الخاطباتْ....

ما أتعسكِ يا سيّدتي..

فلن تكوني في الكُتُب الزرقاء.. بعد اليوم

ولن تكوني في ورق الرسائلْ،

وبكاء الشموعْ..

وحقيبة موزع البريدْ..

لن تكوني في عرائس السُكَّرْ..

وطيّارات الورق الملوّنة..

لن تكوني في وَجَع القصائدْ..

فلقد نفيتِ نفسكِ خارجَ حدائق طفولتي..

وأصبحتِ نثراً....