الديوان : قصائد وشعر محمود درويش . الشاعر/الكاتب : محمود درويش

شولميت انتظرت صاحبها في مدخل البار ، 
من الناحية الأخرى يمر العاشقون، 
و نجوم السينما يبتسمون. 
ألف إعلان يقول: 
نحن لن نخرج من خارطة الأجداد ، 
لن نترك شبرا واحدا للاجئين 
شولميت انكسرت في ساعة الحائط ، 
عشرون دقيقة 
وقفت، و انتظرت صاحبها 
في مدخل البار، و ما جاء إليها. 
قال في مكتوبه أمس: 
"لقد أحرزت، يا شولا و ساما و إجازة 
إحجزي مقعدنا السابق في البار 
أنا عطشان يا شولا، لكأس وشفه 
قد تنازلت عن الموت الذي يورثني المجد 
لكي أحبو كطفل فوق رمل الأرصفة 
و لكي أرقص في البار". 
من الناحية الأخرى ، 
يمر الأصدقاء 
عرفوا شولا على شاطيء عكا 
قبل عامين ،و كانوا 
يأكلون الذرة الصفراء.. 
كانوا مسرعين 
كعصافير المساء.. 
شولميت انكسرت في ساعة الحائط، خمسين دقيقة 
وقفت ،و انتظرت صاحبها 
شولميت استنشقت رائحة الخروب من بدلته 
كان يأتي، آخر الأسبوع كالطفل إليها 
يتباهى بمدى الشوق الذي يحمله 
قال لها: صحراء سيناء أضافت سببا 
يجعله يسقط كالعصفور في بلور نهديها 
و قال: 
ليتني أمتد كالشمس و كالرمل على جسمك ، 
نصفي قاتل و النصف مقتول، 
وزهر البرتقال 
جيد في البيت و النزهة، و العيد الذي أطلبه 
من فخدك الشائع في لحمي.. مميت 
في ميادين القتال!.. 
و أحسست كفه تفترس الخصر 
فصاحت: لست في الجبهة.. 
قال: 
مهنتي! 
قالت له: لكنني صاحبتك 
قال: من يحترف القتل هناك 
يقتل الحب هنا. 
وارتمي في حضنها اللاهث موسيقي، 
و غىّ لغيوم فوق أشجار أريحا.. 
يا أريحا! أنت في الحلم وفي اليقظة ضدّان، 
و في الحلم و في اليقظة حاربت هناك 
و أنا بينهما مزّقت توراتي 
و عذبت المسيحا.. 
يا أريحا! أوقفي شمسك.إنّا قادمون 
نوقف الريح على حد السكاكين، 
إذا شئنا، و ندعوك إلى مائدة القائد، 
إنا قادمون.. 
و أحسّت يده تشرب كفّيها. و قال 
عندما كان الندى يغسل وجهين بعيدين 
عن الضوء: أنا المقتول و القاتل 
لكنّ الجريدة 
و طقوس الاحتفال 
تقتضي أن أسجن الكذبة في الصدر، 
و في عينيك، يا شول،ا و أن أمسح رشّاشي 
بمسحوق عقيدة! 
أغمضي عينيك لن أقوى على رؤية 
عشرين ضحية 
فيهما، تستيقظ الآن، و قد كنت بعيدة 
لم أفكّربك.. لم أخجل من الصمت الذي 
يولد في ظل العيون العسلّية . 
و أصول الحرب لن تسمح أن أعشق 
إلا البندقيّة!.. 
سألته شولميت: 
و متى نخرج من هذا الحصار ؟ 
قال، و الغيمة في حنجرته: 
أي أنواع الحصار؟ 
فأجاب: في صباح الغد تمضي . 
و أنا أشرح للجيران أن الوهلة الأولى 
خداع للبصر.. 
نحن لا ندفع هذا العرق الأحمر.. 
هذا الدم لا ندفعه. 
من أجل أن يزداد هذا الوطن الضاري حجر 
قال: إن الوقت مجنون. 
و لم يلتئم الليلة جسمانا 
دعيني . 
أذب الآن بجسم الكستنا و الياسمين 
أنت_يا سيدي_ فاكهتي الأولى. 
و ناما.. 
و بكى في فرح الجسمي.ن في عيدعما لون القمر 
شولميت استسلمت للذكريات 
كل روّاد المقاهي و الملاهي شبعوا رقصا 
و في الناحية الأخرى، تدوخ الفتيات 
بين أحضان الشباب المتعبي.ن 
و على لائحة الإعلان يحتد وزير الأمن: 
لن نرجع شبرا واحدا للاجئين .. 
و الفدائيون مجتثون، منذ الآن 
لن يخمش جنديّ و من مات 
على تربة هذا الوطن الغالي 
له الرحمة و المجد.. ورايات الوطن! 
شولميت اكتشفت أنّ أغاني الحرب 
لا توصل القلب و النجوى إلى صاحبها 
نحن في المذياع أبطال 
و في التابوت أطفال 
و في البيت صور .. 
_ليتهم لم يكتبوا أسماءنا 
في الصفحة الأولى، 
فلن يولد حي من خبر.. 
_وعدوا موتك بالخلد بتمثال رخام 
وعدوا موتك بالمجد و لكن رجال الجنرال 
سوف ينسونك في كل رخام 
و سينسونك في كل احتفال.. 
شولميت اكتشفت أن أغاني الحرب 
لا توصل صمت القلب و النجوى إلى صاحبها 
فجأة عادت بها الذكرى 
إلى لذّتها الأولى، إلى دنيا غريبة 
صدقّت ما قال محمود لها قبل سنين 
_كان محمود صديقا طيب القلب 
خجولا كان، لا يطلب منها 
غير أن تفهم أنّ اللاجئين 
أمة تشعر بالبرد ، 
و بالشوق إلى أرض سليبة 
و حبيبا صار فيما بعد، 
لكنّ الشبابيك التي يفتحها 
في آخر الليل.. رهيبة 
كان لا يغضبها، لكنه كان يقول 
كلمات توقع المنطق في الفخّ، 
إذا سرّت إلى آخرها 
ضقت ذرعا بالأساطير التي تعبدها 
و تمزّقت، حياء، من نواطير الحقول.. 
صدقّت ما قال محمود لها قبل سنين 
عندما عانقها، في المرة الأولى، بكت 
من لذة الحب.. و من جيرانها 
كل قومياتنا قشرة موز، 
فكرت يوما على ساعده، 
و أتى سيمون يحميها من الحب القديم 
و من الكفر بقوميتها. 
كان محمود سجينا يومها 
كانت" الرملة" فردوسا له.. كانت جحيم.. 
كانت الرقصة تغريها بأن تهلك في الإيقاع. 
أن تنعس فيما بعد في صدر رحيم 
سكر الإيقاع. كانت وحدها في البار 
لا يعرفها إلا الندم . 
و أتى سيمون يدعوها إلى الرقص 
فلّبت 
كان جنديا وسيم 
كان يحميها من الوحدة في البار، 
و يحميها من الحب القديم 
و من الكفر بقوميتها.. 
شولميت انتظرت صاحبها في مدخل البار القديم 
شولميت انكسرت في ساعة الحائط ساعات.. 
و ضاعت في شريط الأزمنة 
شولميت انتظرت سيمون_ لا بأس إذن 
فليأت محمود.. أنا أنتظر الليلة عشرين سنة 
كل أزهارك كانت دعوة للانتظار 
ويداك الآن تلتفان حولي 
مثل نهرين من الحنطة و الشوك. 
و عيناك حصار 
و أنا أمتد من مدخل هذا البار 
حتى علم الدولة، حقلا من شفاه دموية 
أين سيمون و محمود؟ 
من الناحية الأخرى 
زهور حجريّة. 
و يمر الحارس الليلي . 
و الإسفلت ليل آخر 
يشرب أضواء المصابيح، 
و لا تلمع إلا بندقيّة..