الديوان : قصائد وشعر محمود درويش . الشاعر/الكاتب : محمود درويش

ليدين من حجر و زعتر 
هذا النشيد .. لأحمد المنسيّ بين فراشتين 
مضت الغيوم و شرّدتني 
و رمت معاطفها الجبال و خبّأتني 
.. نازلا من نحلة الجرح القديم إلى تفاصيل 
البلاد و كانت السنة انفصال البحر عن مدن 
الرماد و كنت وحدي 
ثم وحدي ... 
آه يا وحدي ؟ و أحمد 
كان اغتراب البحر بين رصاصتين 
مخيّما ينمو ، و ينجب زعنرا و مقاتلين 
و ساعدا يشتدّ في النيسان 
ذاكرة تجيء من القطارات التي تمضي 
و أرصفة بلا مستقبلين و ياسمين 
كان اكتشاف الذات في العربات 
أو في المشهد البحري 
في ليل الزنازين الشقيقة 
قي العلاقات السريعة 
و السؤال عن الحقيقة 
في كل شيء كان أحمد يلتقي بنقيضه 
عشرين عاما كان يسأل 
عشرين عاما كان يرحل 
عشرين عاما لم تلده أمّه إلّا دقائق في 
إناء الموز 
و انسحبت . 
يريد هويّة فيصاب بالبركان ، 
سافرت الغيوم و شرّدتني 
ورمت معاطفها الجبال و خبّأتني 
أنا أحمد العربيّ - قال 
أنا الرصاص البرتقال الذكريات 
و جدت نفسي قرب نفسي 
فابتعدت عن الندى و المشهد البحريّ 
تل الزعتر الخيمة 
و أنا البلاد و قد أتت 
و تقمّصتني 
و أنا الذهاب المستمرّ إلى البلاد 
و جدت نفسي ملء نفسي ... 
راح أحمد يلتقي بضلوعه و يديه 
كان الخطوة - النجمه 
و من المحيط إلى الخليج ، من الخليج إلى المحيط 
كانوا يعدّون الرماح 
و أحمد العربيّ يصعد كي يرى حيفا 
و يقفز . 
أحمد الآن الرهينه 
تركت شوارعها المدينة 
و أتت إليه 
لتقتله 
و من الخليج إلى المحيط ، و من المحيط إلى الخليج 
كانوا يعدّون الجنازة 
وانتخاب المقصلة 
أنا أحمد العربيّ - فليأت الحصار 
جسدي هو الأسوار - فليأت الحصار 
و أنا حدود النار - فليأت الحصار 
و أنا أحاصركم 
أحاصركم 
و صدري باب كلّ الناس - فليأت الحصار 
لم تأت أغنيتي لترسم أحمد الكحليّ في الخندق 
الذكريات وراء ظهري ، و هو يوم الشمس و الزنبق 
يا أيّها الولد الموزّع بين نافذتين 
لا تتبادلان رسائلي 
قاوم 
إنّ التشابه للرمال ... و أنت للأزرق 
و أعدّ أضلاعي فيهرب من يدي بردى 
و تتركني ضفاف النيل مبتعدا 
و أبحث عن حدود أصابعي 
فأرى العواصم كلها زبدا ... 
و أحمد يفرك الساعات في الخندق 
لم تأت أغنيتي لترسم أحمد المحروق بالأزرق 
هو أحمد الكونيّ في هذا الصفيح الضيّق 
المتمزّق الحالم 
و هو الرصاص البرتقاليّ .. البنفسجه الرصاصيّة 
و هو اندلاع ظهيرة حاسم 
في يوم حريّه 
يا أيّها الولد المكرّس للندى 
قاوم ! 
يا أيّها البلد - المسدس في دمي 
قاوم ! 
الآن أكمل فيك أغنيتي 
و أذهب في حصارك 
و الآن أكمل فيك أسئلتي 
و أولد من غبارك 
فاذهب إلى قلبي تجد شعبي 
شعوبا في انفجارك 
... سائرا بين التفاصيل اتكأت على مياه 
فانكسرت 
أكلّما نهدت سفرجله نسيت حدود قلبي 
و التجأت إلى حصار كي أحدد قامتي 
يا أحمد العربيّ ؟ 
لم يكذب عليّ الحب . لكن كلّما جاء المساء 
امتصّني جرس بعيد 
و التجأت إلى نزيفي كي أحدّد صورتي 
يا أحمد العربيّ . 
لم أغسل دمي من خبز أعدائي 
و لكن كلّما مرّت خطاي على طريق 
فرّت الطرق البعيدة و القريبة 
كلّما آخيت عاصمة رمتني بالحقيبة 
فالتجأت إلى رصيف الحلم و الأشعار 
كم أمشي إلى حلمي فتسبقني الخناجر 
آه من حلمي و من روما ! 
جميل أنت في المنفى 
قتيل أنت في روما 
و حيفا من هنا بدأت 
و أحمد سلم الكرمل 
و بسملة الندى و الزعتر البلدي و المنزل 
لا تسرقوه من السنونو 
لا تأخذوه من الندى 
كتبت مراثيها العيون 
و تركت قلبي للصدى 
لا تسرقوه من الأبد 
و تبعثروه على الصليب 
فهو الخريطة و الجسد 
و هو اشتعال العندليب 
لا تأخذوه من الحمام 
لا ترسلوه إلى الوظيفه 
لا ترسموا دمه و سام 
فهو البنفسج في قذيفه 
صاعدا نحو التئام الحلم 
تتّخذ التفاصيل الرديئة شكل كمّثرى 
و تنفصل البلاد عن المكاتب 
و الخيول عن الحقائب 
للحصى عرق أقبّل صمت هذا الملح 
أعطى خطبة الليمون لليمون 
أوقد شمعتي من جرحي المفتوح للأزهار 
و السمك المجفّف 
للحصى عرق و مرآه 
و للحطاب قلب يمامه 
أنساك أحيانا لينساني رجال الأمن 
يا امرأتي الجميلة تقطعين القلب و البصل 
الطري و تذهبين إلى البنفسج 
فاذكريني قبل أن أنسى يدي 
… و صاعدا نحو التئام الحلم 
تنكمش المقاعد تحت أشجاري و ظلّك … 
يختفي المتسلّقون على جراحك كالذباب الموسميّ 
و يختفي المتفرجون على جراحك 
فاذكريني قبل أن أنسى يديّ ! 
و للفراشات اجتهادي 
و الصخور رسائلي في الأرض 
لا طروادة بيتي 
و لا مسّادة وقتي 
و أصعد من جفاف الخبز و الماء المصادر 
من حصان ضاع في درب المطار 
و من هواء البحر أصعد 
من شظايا أدمنت جسدي 
و أصعد من عيون القادمين إلى غروب السهل 
أصعد من صناديق الخضار 
و قوّة الأشياء أصعد 
أنتمي لسمائي الأولى و للفقراء في كل الأزقّة 
ينشدون : 
صامدون 
و صامدون 
و صامدون 
كان المخيّم جسم أحمد 
كانت دمشق جفون أحمد 
كان الحجاز ظلال أحمد 
صار الحصار مرور أحمد فوق أفئدة الملايين 
الأسيرة 
صار الحصار هجوم أحمد 
و البحر طلقته الأخيرة ! 
يا خضر كل الريح 
يا أسبوع سكّر ! 
يا اسم العيون و يا رخاميّ الصدى 
يا أحمد المولود من حجر و زعتر 
ستقول : لا 
ستقول : لا 
جلدي عباءة كلّ فلاح سيأتي من حقول التبغ 
كي يلغي العواصم 
و تقول : لا 
جسدي بيان القادمين من الصناعات الخفيفة 
و التردد .. و الملاحم 
نحو اقتحام المرحلة 
و تقول : لا 
و يدي تحيات الزهوز و قنبلة 
مرفوعة كالواجب اليومي ضدّ المرحلة 
و تقول : لا 
يا أيّها الجسد المضرّج بالسفوح 
و بالشموس المقبلة 
و تقول : لا 
يا أيّها الجسد الذي يتزوّج الأمواج 
فوق المقصلة 
و تقول : لا 
و تقول : لا 
و تقول : لا 
و تموت قرب دمي و تحيا في الطحين 
ونزور صمتك حين تطلبنا يداك 
و حين تشعلنا اليراعة 
مشت الخيول على العصافير الصغيرة 
فابتكرنا الياسمين 
ليغيب وجه الموت عن كلماتنا 
فاذهب بعيدا في الغمام و في الزراعة 
لا وقت للمنفى و أغنيتي ... 
سيجرفنا زحام الموت فاذهب في الرخام 
لنصاب بالوطن البسيط و باحتمال الياسمين 
واذهب إلى دمك المهيّأ لانتشارك 
و اذهب إلى دمي الموحّد في حصارك 
لا وقت للمنفى ... 
و للصور الجميلة فوق جدران الشوارع و الجنائز 
و التمني 
كتبت مراثيها الطيور و شرّدتني 
ورمت معاطفها الحقول و جمعتني 
فاذهب بعيدا في دمي ! و اذهب بعيدا في الطحين 
لنصاب بالوطن البسيط و باحتمال الياسمين 
يا أحمد اليوميّ  

يا اسم الباحثين عن الندى و بساطة الأسماء 
يا اسم البرتقاله 
يا أحمد العاديّ ! 

كيف محوت هذا الفارق اللفظيّ بين الصخر و التفاح 
بين البندقيّة و الغزاله ! 
لا وقت للمنفى و أغنيتي ... 
سنذهب في الحصار 
حتى نهايات العواصم 
فاذهب عميقا في دمي 
اذهب براعم 
و اذهب عميقا في دمي 
اذهب خواتم 
و اذهب عميقا في دمي 
اذهب سلالم 
يا أحمد العربيّ... قاوم ! 
لا وقت للمنفى و أغنيتي ... 
سنذهب في الحصار 
حتى رصيف الخبز و الأمواج 
تلك مساحتي و مساحة الوطن - الملازم 
موت أمام الحلم 
أو حلم يموت على الشعار 
فاذهب عميقا في دمي و اذهب عميقا في الطحين 
لنصاب بالوطن البسيط و باحتمال الياسمين 
... و له انحناءات الخريف 
له وصايا البرتقال 
له القصائد في النزيف 
له تجاعيد الجبال 
له الهتاف 
له الزفاف 
له المجلّات الملوّنه 
المراثي المطمئنة 
ملصقات الحائط 
العلم 
التقدّم 
فرقة الإنشاد 
مرسوم الحداد 
و كل شيء كل شيء كل شيء 
حين يعلن وجهه للذاهبين إلى ملامح مجهه 
يا أحمد المجهول ! 
كيف سكنتنا عشرين عاما و اختفيت 
و ظلّ وجهك غامضا مثل الظهيرة 
يا أحمد السريّ مثل النار و الغابات 
أشهر وجهك الشعبيّ فينا 
واقرأ وصيّتك الأخيرة ؟ 
يا أيّها المتفرّجون ! تناثروا في الصمت 
و ابتعدوا قليلا عنه كي تجدوه فيكم 
حنطة ويدين عاريتين 
وابتعدوا قليلا عنه كي يتلو وصيّته 
على الموتى إذا ماتوا 
و كي يرمي ملامحه 
على الأحياء ان عاشوا ! 
أخي أحمد ! 
و أنت العبد و المعبود و المعبد 
متى تشهد 
متى تشهد 
متى تشهد ؟