الديوان : قصائد وشعر محمود درويش . الشاعر/الكاتب : محمود درويش

هذا هُوَ اسمُكَ / 
قالتِ امرأةٌ ، 
وغابتْ في المَمَرِّ اللولبيِّ… 
أرى السماءَ هُنَاكَ في مُتَناوَلِ الأَيدي . 
ويحملُني جناحُ حمامةٍ بيضاءَ صَوْبَ 
طُفُولَةٍ أَخرى . ولم أَحلُمْ بأني 
كنتُ أَحلُمُ . كُلُّ شيءٍ واقعيٌّ . كُنْتُ 
أَعلَمُ أَنني أُلْقي بنفسي جانباً… 
وأَطيرُ . سوف أكونُ ما سأَصيرُ في 
الفَلَك الأَخيرِ . 
.. 
وكُلُّ شيء أَبيضُ ، 
البحرُ المُعَلَّقُ فوق سقف غمامةٍ 
بيضاءَ . والَّلا شيء أَبيضُ في 
سماء المُطْلَق البيضاءِ . كُنْتُ ، ولم 
أَكُنْ . فأنا وحيدٌ في نواحي هذه 
الأَبديَّة البيضاء . جئتُ قُبَيْل ميعادي 
فلم يَظْهَرْ ملاكٌ واحدٌ ليقول لي : 
(( ماذا فعلتَ ، هناك ، في الدنيا ؟ )) 
ولم أَسمع هُتَافَ الطيِّبينَ ، ولا 
أَنينَ الخاطئينَ ، أَنا وحيدٌ في البياض ، 
أَنا وحيدُ … 
.. 
لاشيء يُوجِعُني على باب القيامةِ . 
لا الزمانُ ولا العواطفُ . لا 
أُحِسُّ بخفَّةِ الأشياء أَو ثِقَلِ 
الهواجس . لم أَجد أَحداً لأسأل : 
أَين (( أَيْني )) الآن ؟ أَين مدينةُ 
الموتى ، وأَين أَنا ؟ فلا عَدَمٌ 
هنا في اللا هنا … في اللازمان ، 
ولا وُجُودُ 
.. 
وكأنني قد متُّ قبل الآن … 
أَعرفُ هذه الرؤيا ، وأَعرفُ أَنني 
أَمضي إلى ما لَسْتُ أَعرفُ . رُبَّما 
ما زلتُ حيّاً في مكانٍ ما، وأَعرفُ 
ما أُريدُ … 
سأصيرُ يوماً ما أُريدُ 
.. 
سأَصيرُ يوماً فكرةً . لا سَيْفَ يحملُها 
إلى الأرضِ اليبابِ ، ولا كتابَ … 
كأنَّها مَطَرٌ على جَبَلٍ تَصَدَّعَ من 
تَفَتُّح عُشْبَةٍ ، 
لا القُوَّةُ انتصرتْ 
ولا العَدْلُ الشريدُ 
.. 
سأَصير يوماً ما أُريدُ 
.. 
سأصير يوماً طائراً ، وأَسُلُّ من عَدَمي 
وجودي . كُلَّما احتَرقَ الجناحانِ 
اقتربتُ من الحقيقةِ ، وانبعثتُ من 
الرمادِ . أَنا حوارُ الحالمين ، عَزَفْتُ 
عن جَسَدي وعن نفسي لأُكْمِلَ 
رحلتي الأولى إلى المعنى ، فأَحْرَقَني 
وغاب . أَنا الغيابُ . أَنا السماويُّ 
الطريدُ . 
.. 
سأَصير يوماً ما أُريدُ 
.. 
سأَصير يوماً كرمةً ، 
فَلْيَعْتَصِرني الصيفُ منذ الآن ، 
وليشربْ نبيذي العابرون على 
ثُرَيَّات المكان السُكَّريِّ ! 
أَنا الرسالةُ والرسولُ 
أَنا العناوينُ الصغيرةُ والبريدُ 
.. 
سأَصير يوماً ما أُريدُ 
.. 
هذا هُوَ اسمُكَ / 
قالتِ امرأةٌ ، 
وغابتْ في مَمَرِّ بياضها . 
هذا هُوَ اسمُكَ ، فاحفظِ اسْمَكَ جَيِّداً ! 
لا تختلفْ مَعَهُ على حَرْفٍ 
ولا تَعْبَأْ براياتِ القبائلِ ، 
كُنْ صديقاً لاسمك الأُفُقِيِّ 
جَرِّبْهُ مع الأحياء والموتى 
ودَرِّبْهُ على النُطْق الصحيح برفقة الغرباء 
واكتُبْهُ على إحدى صُخُور الكهف ، 
يااسمي : سوف تكبَرُ حين أَكبَرُ 
سوف تحمِلُني وأَحملُكَ 
الغريبُ أَخُ الغريب 
سنأخُذُ الأُنثى بحرف العِلَّة المنذور للنايات 
يا اسمي: أَين نحن الآن ؟ 
قل : ما الآن ، ما الغَدُ ؟ 
ما الزمانُ وما المكانُ 
وما القديمُ وما الجديدُ ؟ 
.. 
سنكون يوماً ما نريدُ 
.. 
لا الرحلةُ ابتدأتْ ، ولا الدربُ انتهى 
لم يَبْلُغِ الحكماءُ غربتَهُمْ 
كما لم يَبْلُغ الغرباءُ حكمتَهمْ 
ولم نعرف من الأزهار غيرَ شقائقِ النعمانِ ، 
فلنذهب إلى أَعلى الجداريات : 
أَرضُ قصيدتي خضراءُ ، عاليةُ ، 
كلامُ الله عند الفجر أَرضُ قصيدتي 
وأَنا البعيدُ 
أَنا البعيدُ 
.. 
في كُلِّ ريحٍ تَعْبَثُ امرأةٌ بشاعرها 
- خُذِ الجهةَ التي أَهديتني 
الجهةَ التي انكَسَرتْ ، 
وهاتِ أُنوثتي ، 
لم يَبْقَ لي إلاّ التَأمُّلُ في 
تجاعيد البُحَيْرَة . خُذْ غدي عنِّي 
وهاتِ الأمس ، واتركنا معاً 
لا شيءَ ، بعدَكَ ، سوف يرحَلُ 
أَو يَعُودُ 
.. 
- وخُذي القصيدةَ إن أَردتِ 
فليس لي فيها سواكِ 
خُذي (( أَنا )) كِ . سأُكْملُ المنفى 
بما تركَتْ يداكِ من الرسائل لليمامِ . 
فأيُّنا منا (( أَنا )) لأكون آخرَها ؟ 
ستسقطُ نجمةٌ بين الكتابة والكلامِ 
وتَنْشُرُ الذكرى خواطرها : وُلِدْنا 
في زمان السيف والمزمار بين 
التين والصُبَّار . كان الموتُ أَبطأَ . 
كان أَوْضَح . كان هُدْنَةَ عابرين 
على مَصَبِّ النهر . أَما الآن ، 
فالزرُّ الإلكترونيُّ يعمل وَحْدَهُ . لا 
قاتلٌ يُصْغي إلى قتلى . ولا يتلو 
وصيَّتَهُ شهيدُ 
.. 
من أَيِّ ريح جئتِ ؟ 
قولي ما اسمُ جُرْحِكِ أَعرفِ 
الطُرُقَ التي سنضيع فيها مَرّتيْنِ ! 
وكُلُّ نَبْضٍ فيكِ يُوجعُني ، ويُرْجِعُني 
إلى زَمَنٍ خرافيّ . ويوجعني دمي 
والملحُ يوجعني … ويوجعني الوريدُ 
.. 
في الجرّة المكسورةِ انتحبتْ نساءُ 
الساحل السوريّ من طول المسافةِ ، 
واحترقْنَ بشمس آبَ . رأيتُهنَّ على 
طريق النبع قبل ولادتي . وسمعتُ 
صَوْتَ الماء في الفخّار يبكيهنّ : 
عُدْنَ إلى السحابة يرجعِ الزَمَنُ الرغيدُ 
.. 
قال الصدى : 
لاشيء يرجعُ غيرُ ماضي الأقوياء 
على مِسلاَّت المدى … [ ذهبيّةٌٌ آثارُهُمْ 
ذهبيّةٌٌ ] ورسائلِ الضعفاءِ للغَدِ ، 
أَعْطِنا خُبْزَ الكفاف ، وحاضراً أَقوى . 
فليس لنا التقمُّصُ والحُلُولُ ولا الخُلُودُ 
.. 
قال الصدى : 
وتعبتُ من أَملي العُضَال . تعبتُ 
من شَرَك الجماليّات : ماذا بعد 
بابلَ؟ كُلَّما اتَّضَحَ الطريقُ إلى 
السماء ، وأَسْفَرَ المجهولُ عن هَدَفٍ 
نهائيّ تَفَشَّى النثرُ في الصلوات ، 
وانكسر النشيدُ 
.. 
خضراءُ ، أَرضُ قصيدتي خضراءُ عالية ٌ… 
تُطِلُّ عليَّ من بطحاء هاويتي … 
غريبٌ أَنتَ في معناك . يكفي أَن 
تكون هناك ، وحدك ، كي تصيرَ 
قبيلةً… 
غَنَّيْتُ كي أَزِنَ المدى المهدُورَ 
في وَجَع الحمامةِ ، 
لا لأَشْرَحَ ما يقولُ اللهُ للإنسان ، 
لَسْتُ أَنا النبيَّ لأَدَّعي وَحْياً 
وأُعْلِنَ أَنَّ هاويتي صُعُودُ 
.. 
وأَنا الغريب بكُلِّ ما أُوتيتُ من 
لُغَتي . ولو أخضعتُ عاطفتي بحرف 
الضاد ، تخضعني بحرف الياء عاطفتي ، 
وللكلمات وَهيَ بعيدةٌ أَرضٌ تُجاوِرُ 
كوكباً أَعلى . وللكلمات وَهيَ قريبةٌ 
منفى . ولا يكفي الكتابُ لكي أَقول : 
وجدتُ نفسي حاضراً مِلْءَ الغياب . 
وكُلَّما فَتَّشْتُ عن نفسي وجدتُ 
الآخرين . وكُلَّما فتَّشْتُ عَنْهُمْ لم 
أَجد فيهم سوى نَفسي الغريبةِ ، 
هل أَنا الفَرْدُ الحُشُودُ ؟ 
.. 
وأَنا الغريبُ . تَعِبْتُ من ” درب الحليب ” 
إلى الحبيب . تعبتُ من صِفَتي . 
يَضيقُ الشَّكْلُ . يَتّسعُ الكلامُ . أُفيضُ 
عن حاجات مفردتي . وأَنْظُرُ نحو 
نفسي في المرايا : 
هل أَنا هُوَ ؟ 
هل أُؤدِّي جَيِّداً دَوْرِي من الفصل 
الأخيرِ ؟ 
وهل قرأتُ المسرحيَّةَ قبل هذا العرض ، 
أَم فُرِضَتْ عليَّ ؟ 
وهل أَنا هُوَ من يؤدِّي الدَّوْرَ 
أَمْ أَنَّ الضحيَّة غَيَّرتْ أَقوالها 
لتعيش ما بعد الحداثة ، بعدما 
انْحَرَفَ المؤلّفُ عن سياق النصِّ 
وانصرَفَ المُمَثّلُ والشهودُ ؟ 
.. 
وجلستُ خلف الباب أَنظُرُ : 
هل أَنا هُوَ ؟ 
هذه لُغَتي . وهذا الصوت وَخْزُ دمي 
ولكن المؤلِّف آخَرٌ… 
أَنا لستُ مني إن أَتيتُ ولم أَصِلْ 
أَنا لستُ منِّي إن نَطَقْتُ ولم أَقُلْ 
أَنا مَنْ تَقُولُ له الحُروفُ الغامضاتُ : 
اكتُبْ تَكُنْ ! 
واقرأْ تَجِدْ ! 
وإذا أردْتَ القَوْلَ فافعلْ ، يَتَّحِدْ 
ضدَّاكَ في المعنى … 
وباطِنُكَ الشفيفُ هُوَ القصيدُ 
.. 
بَحَّارَةٌ حولي ، ولا ميناء 
أَفرغني الهباءُ من الإشارةِ والعبارةِ ، 
لم أَجد وقتاً لأعرف أَين مَنْزِلَتي ، 
الهُنَيْهةَ ، بين مَنْزِلَتَيْنِ . لم أَسأل 
سؤالي ، بعد ، عن غَبَش التشابُهِ 
بين بابَيْنِ : الخروج أم الدخول … 
ولم أَجِدْ موتاً لأقْتَنِصَ الحياةَ . 
ولم أَجِدْ صوتاً لأَصرخَ : أَيُّها 
الزَمَنُ السريعُ ! خَطَفْتَني مما تقولُ 
لي الحروفُ الغامضاتُ : 
ألواقعيُّ هو الخياليُّ الأَكيدُ 
.. 
يا أيها الزَمَنُ الذي لم ينتظِرْ … 
لم يَنْتَظِرْ أَحداً تأخَّر عن ولادتِهِ ، 
دَعِ الماضي جديداً ، فَهْوَ ذكراكَ 
الوحيدةُ بيننا ، أيَّامَ كنا أَصدقاءك ، 
لا ضحايا مركباتك . واترُكِ الماضي 
كما هُوَ ، لا يُقَادُ ولا يَقُودُ 
.. 
ورأيتُ ما يتذكَّرُ الموتى وما ينسون … 
هُمْ لا يكبرون ويقرأون الوَقْتَ في 
ساعات أيديهمْ . وَهُمْ لايشعرون 
بموتنا أَبداً ولا بحياتهِمْ . لا شيءَ 
ممَّا كُنْتُ أو سأكونُ . تنحلُّ الضمائرُ 
كُلُّها . ” هو ” في ” أنا ” في ” أَنت ” . 
لا كُلٌّ ولاجُزْءٌ . ولا حيٌّ يقول 
لميِّتٍ : كُنِّي ! 
.. 
.. وتنحلُّ العناصرُ والمشاعرُ . لا 
أَرى جَسَدي هُنَاكَ ، ولا أُحسُّ 
بعنفوان الموت ، أَو بحياتيَ الأُولى . 
كأنِّي لَسْتُ منّي . مَنْ أَنا ؟ أَأَنا 
الفقيدُ أَم الوليدُ ؟ 
.. 
الوقْتُ صِفْرٌ . لم أُفكِّر بالولادة 
حين طار الموتُ بي نحو السديم ، 
فلم أكُن حَيّاً ولا مَيْتاً، 
ولا عَدَمٌ هناك ، ولا وُجُودُ 
.. 
تقولُ مُمَرِّضتي : أَنتَ أَحسَنُ حالا ً. 
وتحقُنُني بالمُخَدِّر : كُنْ هادئاً 
وجديراً بما سوف تحلُمُ 
عما قليل … 
.. 
رأيتُ طبيبي الفرنسيَّ 
يفتح زنزانتي 
ويضربني بالعصا 
يُعَاونُهُ اثنانِ من شُرْطة الضاحيةْ 
.. 
رأيتُ أَبي عائداً 
من الحجِّ ، مُغمىً عليه 
مُصَاباً بضربة شمسٍ حجازيّة 
يقول لرفِّ ملائكةٍ حَوْلَهُ : 
أَطفئوني ! … 
.. 
رأيتُ شباباً مغاربةً 
يلعبون الكُرَةْ 
ويرمونني بالحجارة : عُدْ بالعبارةِ 
واترُكْ لنا أُمَّنا 
يا أَبانا الذي أخطَأَ المقبرةْ ! 
.. 
رأيت ” ريني شار ” 
يجلس مع ” هيدغر ” 
على بُعْدِ مترين منِّي ، 
رأيتهما يشربان النبيذَ 
ولا يبحثان عن الشعر … 
كان الحوار شُعَاعاً 
وكان غدٌ عابرٌ ينتظرْ 
.. 
رأيتُ رفاقي الثلاثَةَ ينتحبونَ 
وَهُمْ 
يَخيطونَ لي كَفَناً 
بخُيوطِ الذَّهَبْ 
.. 
رأيت المعريَّ يطرد نُقَّادَهُ 
من قصيدتِهِ : 
لستُ أَعمى 
لأُبْصِرَ ما تبصرونْ ، 
فإنَّ البصيرةَ نورٌ يؤدِّي 
إلى عَدَمٍ …. أَو جُنُونْ 
.. 
رأيتُ بلاداً تعانقُني 
بأَيدٍ صَبَاحيّة : كُنْ 
جديراً برائحة الخبز . كُنْ 
لائقا ً بزهور الرصيفْ 
فما زال تَنُّورُ أُمِّكَ 
مشتعلاً ، 
والتحيَّةُ ساخنةً كالرغيفْ ! 
.. 
خضراءُ ، أَرضُ قصيدتي خضراءُ . نهرٌ واحدٌ يكفي 
لأهمس للفراشة : آهِ ، يا أُختي ، ونَهْرٌ واحدٌ يكفي لإغواءِ 
الأساطير القديمة بالبقاء على جناح الصَّقْر ، وَهْوَ يُبَدِّلُ 
الراياتِ والقممَ البعيدةَ ، حيث أَنشأتِ الجيوشُ ممالِكَ 
النسيان لي . لاشَعْبَ أَصْغَرُ من قصيدته . ولكنَّ السلاحَ 
يُوَسِّعُ الكلمات للموتى وللأحياء فيها ، والحُرُوفَ تُلَمِّعُ 
السيفَ المُعَلَّقَ في حزام الفجر ، والصحراء تنقُصُ 
بالأغاني ، أَو تزيدُ 
.. 
لاعُمْرَ يكفي كي أَشُدَّ نهايتي لبدايتي 
أَخَذَ الرُّعَاةُ حكايتي وتَوَغَّلُوا في العشب فوق مفاتن 
الأنقاض ، وانتصروا على النسيان بالأَبواق والسَّجَع 
المشاع ، وأَورثوني بُحَّةَ الذكرى على حَجَرِ الوداع ، ولم 
يعودوا … 
.. 
رَعَويَّةٌ أَيَّامنا رَعَويَّةٌ بين القبيلة والمدينة ، لم أَجد لَيْلاً 
خُصُوصِيّاً لهودجِكِ المُكَلَّلِ بالسراب ، وقلتِ لي : 
ما حاجتي لاسمي بدونكَ ؟ نادني ، فأنا خلقتُكَ 
عندما سَمَّيْتَني ، وقتلتَني حين امتلكتَ الاسمَ … 
كيف قتلتَني ؟ وأَنا غريبةُ كُلِّ هذا الليل ، أَدْخِلْني 
إلى غابات شهوتك ، احتضنِّي واعْتَصِرْني ، 
واسفُك العَسَلَ الزفافيَّ النقيَّ على قفير النحل . 
بعثرني بما ملكتْ يداك من الرياح ولُمَّني . 
فالليل يُسْلِمُ روحَهُ لك يا غريبُ ، ولن تراني نجمةٌ 
إلاّ وتعرف أَنَّ عائلتي ستقتلني بماء اللازوردِ ، 
فهاتِني ليكونَ لي - وأَنا أُحطِّمُ جَرَّتي بيديَّ - 
حاضِريَ السعيدُ 
.. 
- هل قُلْتَ لي شيئاً يُغَيِّر لي سبيلي ؟ 
- لم أَقُلْ . كانت حياتي خارجي 
أَنا مَنْ يُحَدِّثُ نفسَهُ : 
وَقَعَتْ مُعَلَّقتي الأَخيرةُ عن نخيلي 
وأَنا المُسَافِرُ داخلي 
وأَنا المُحَاصَرُ بالثنائياتِ ، 
لكنَّ الحياة جديرَةٌ بغموضها 
وبطائرِ الدوريِّ … 
لم أُولَدْ لأَعرفَ أَنني سأموتُ ، بل لأُحبَّ محتوياتِ ظلِّ 
اللهِ 
يأخُذُني الجمالُ إلى الجميلِ 
وأُحبُّ حُبَّك ، هكذا متحرراً من ذاتِهِ وصفاتِهِ 
وأِنا بديلي … 
.. 
أَنا من يُحَدِّثُ نَفْسَهُ : 
مِنْ أَصغر الأشياءِ تُولَدُ أكبرُ الأفكار 
والإيقاعُ لا يأتي من الكلمات ، 
بل مِنْ وحدة الجَسَدَيْنِ 
في ليلٍ طويلٍ … 
.. 
أَنا مَنْ يحدِّثُ نَفْسَهُ 
ويروِّضُ الذكرى … أَأَنتِ أَنا ؟ 
وثالثُنا يرفرف بيننا ” لا تَنْسَيَاني دائماً ” 
يا مَوْتَنا ! خُذْنَا إليكَ على طريقتنا ، فقد نتعلَّمُ الإشراق … 
لا شَمْسٌ ولا قَمَرٌ عليَّ 
تركتُ ظلِّي عالقاً بغصون عَوْسَجَةٍ 
فخفَّ بِيَ المكانُ 
وطار بي روحي الشَّرُودُ 
.. 
أَنا مَنْ يحدِّثُ نفسَهُ : 
يا بنتُ : ما فَعَلَتْ بكِ الأشواقُ ؟ 
إن الريح تصقُلُنا وتحملنا كرائحة الخريفِ ، 
نضجتِ يا امرأتي على عُكَّازَتيَّ ، 
بوسعك الآن الذهابُ على ” طريق دمشق ” 
واثقةً من الرؤيا . مَلاَكٌ حارسٌ 
وحمامتان ترفرفان على بقيَّة عمرنا ، والأرضُ عيدُ … 
.. 
الأرضُ عيدُ الخاسرين [ ونحن منهُمْ ] 
نحن من أَثَرِ النشيد الملحميِّ على المكان ، كريشةِ النَّسْرِ 
العجوز خيامُنا في الريح . كُنَّا طيِّبين وزاهدين بلا تعاليم 
المسيح . ولم نكُنْ أَقوى من الأعشابِ إلاّ في ختام 
الصَيْفِ ، 
أَنتِ حقيقتي ، وأَنا سؤالُكِ 
لم نَرِثْ شيئاً سوى اسْميْنَا 
وأَنتِ حديقتي ، وأَنا ظلالُكِ 
عند مفترق النشيد الملحميِّ … 
ولم نشارك في تدابير الإلهات اللواتي كُنَّ يبدأن النشيد 
بسحرهنَّ وكيدهنَّ . وكُنَّ يَحْمِلْنَ المكانَ على قُرُون 
الوعل من زَمَنِ المكان إلى زمان آخرٍ … 
.. 
كنا طبيعيِّين لو كانت نجومُ سمائنا أَعلى قليلاً من 
حجارة بئرنا ، والأَنبياءُ أَقلَّ إلحاحاً ، فلم يسمع مدائحَنا 
الجُنُودُ … 
.. 
خضراءُ ، أرضُ قصيدتي خضراءُ 
يحملُها الغنائيّون من زَمَنٍ إلى زَمَنٍ كما هِيَ في 
خُصُوبتها . 
ولي منها : تأمُّلُ نَرْجسٍ في ماء صُورَتِهِ 
ولي منها وُضُوحُ الظلِّ في المترادفات 
ودقَّةُ المعنى … 
ولي منها : التَّشَابُهُ في كلام الأَنبياءِ 
على سُطُوح الليلِ 
لي منها : حمارُ الحكمةِ المنسيُّ فوق التلِّ 
يسخَرُ من خُرافتها وواقعها … 
ولي منها : احتقانُ الرمز بالأضدادِ 
لا التجسيدُ يُرجِعُها من الذكرى 
ولا التجريدُ يرفَعُها إلى الإشراقة الكبرى 
ولي منها : ” أَنا ” الأُخرى 
تُدَوِّنُ في مُفَكِّرَة الغنائيِّين يوميَّاتها : 
(( إن كان هذا الحُلْمُ لا يكفي 
فلي سَهَرٌ بطوليٌّ على بوابة المنفى … )) 
ولي منها : صَدَى لُغتي على الجدران 
يكشِطُ مِلْحَهَا البحريَّ 
حين يخونني قَلْبٌ لَدُودُ … 
.. 
أَعلى من الأَغوار كانت حكمتي 
إذ قلتُ للشيطان : لا . لا تَمْتَحِنِّي ! 
لا تَضَعْني في الثُّنَائيّات ، واتركني 
كما أَنا زاهداً برواية العهد القديم 
وصاعداً نحو السماء ، هُنَاكَ مملكتي 
خُذِ التاريخَ ، يا ابنَ أَبي ، خُذِ 
التاريخَ … واصنَعْ بالغرائز ما تريدُ 
.. 
وَلِيَ السكينةُ . حَبَّةُ القمح الصغيرةُ 
سوف تكفينا ، أَنا وأَخي العَدُوّ ، 
فساعتي لم تَأْتِ بَعْدُ . ولم يَحِنْ 
وقتُ الحصاد . عليَّ أَن أَلِجَ الغيابَ 
وأَن أُصدِّقَ أوَّلاً قلبي وأتبعَهُ إلى 
قانا الجليل . وساعتي لم تأتِ بَعْدُ . 
لَعَلَّ شيئاً فيَّ ينبُذُني . لعلِّي واحدٌ 
غيري . فلم تنضج كُرومُ التين حول 
ملابس الفتيات بَعْدُ . ولم تَلِدْني 
ريشةُ العنقاء . لا أَحَدٌ هنالك 
في انتظاري . جئْتُ قبل ، وجئتُ 
بعد ، فلم أَجد أحداً يُصَدِّق ما 
أرى . أنا مَنْ رأى . وأَنا البعيدُ 
أَنا البعيدُ 
.. 
مَنْ أَنتَ ، يا أَنا ؟ في الطريقِ 
اثنانِ نَحْنُ ، وفي القيامة واحدٌ . 
خُذْني إلى ضوء التلاشي كي أَرى 
صَيْرُورتي في صُورَتي الأُخرى . فَمَنْ 
سأكون بعدَكَ ، يا أَنا ؟ جَسَدي 
ورائي أم أَمامَكَ ؟ مَنْ أَنا يا 
أَنت ؟ كَوِّنِّي كما كَوَّنْتُكَ ، ادْهَنِّي 
بزيت اللوز ، كَلِّلني بتاج الأرز . 
واحملني من الوادي إلى أَبديّةٍ 
بيضاءَ . عَلِّمني الحياةَ على طريقتِكَ ، 
اختَبِرْني ذَرَّةً في العالم العُلْوِيِّ . 
ساعِدْني على ضَجَر الخلود ، وكُنْ 
رحيماً حين تجرحني وتبزغ من 
شراييني الورودُ … 
.. 
لم تـأت سـاعـتُنا . فـلا رُسُـلٌ يَـقِـيـسُـونَ 
الزمانَ بقبضة العشب الأخير . هل استدار ؟ ولا ملائكةٌ 
يزورون المكانَ ليتركَ الشعراءُ ماضِيَهُمْ على الشَّفَق 
الجميل ، ويفتحوا غَدَهُمْ بأيديهمْ . 
فغنِّي يا إلهتيَ الأثيرةَ ، ياعناةُ ، 
قصيدتي الأُولى عن التكوين ثانيةً … 
فقد يجدُ الرُّوَاةُ شهادةَ الميلاد 
للصفصاف في حَجَرٍ خريفيّ . وقد يجدُ 
الرعاةُ البئرَ في أَعماق أُغنية . وقد 
تأتي الحياةُ فجاءةً للعازفين عن 
المعاني من جناح فراشةٍ عَلِقَتْ 
بقافيةٍ ، فغنِّي يا إلهتيَ الأَثيرةَ 
يا عناةُ ، أَنا الطريدةُ والسهامُ ، 
أَنا الكلامُ . أَنا المؤبِّنُ والمؤذِّنُ 
والشهيدُ 
.. 
ما قلتُ للطَّلَلِ : الوداع . فلم أَكُنْ 
ما كُنْتُ إلاّ مَرَّةً . ما كُنْتُ إلاّ 
مرَّةً تكفي لأَعرف كيف ينكسرُ الزمانُ 
كخيمة البدويِّ في ريح الشمال ، 
وكيف يَنْفَطِرُ المكانُ ويرتدي الماضي 
نُثَارَ المعبد المهجور . يُشبهُني كثيراً 
كُلُّ ما حولي ، ولم أُشْبِهْ هنا 
شيئاً . كأنَّ الأرض ضَيِّقَةٌ على 
المرضى الغنائيِّين ، أَحفادِ الشياطين 
المساكين المجانين الذين إذا رأوا 
حُلْماً جميلاً لَقَّنُوا الببغاءَ شِعْر 
الحب ، وانفتَحتْ أَمامَهُمُ الحُدُودُ … 
.. 
وأُريدُ أُن أُحيا … 
فلي عَمَلٌ على ظهر السفينة . لا 
لأُنقذ طائراً من جوعنا أَو من 
دُوَارِ البحر ، بل لأُشاهِدَ الطُوفانَ 
عن كَثَبٍ : وماذا بعد ؟ ماذا 
يفعَلُ الناجونَ بالأرض العتيقة ؟ 
هل يُعيدونَ الحكايةَ ؟ ما البدايةُ ؟ 
ما النهايةُ ؟ لم يعد أَحَدٌ من 
الموتى ليخبرنا الحقيقة … / 
أَيُّها الموتُ انتظرني خارج الأرض ، 
انتظرني في بلادِكَ ، ريثما أُنهي 
حديثاً عابراً مَعَ ما تبقَّى من حياتي 
قرب خيمتكَ ، انتظِرْني ريثما أُنهي 
قراءةَ طَرْفَةَ بنِ العَبْد . يُغْريني 
الوجوديّون باستنزاف كُلِّ هُنَيْهَةٍ 
حريةً ، وعدالةً ، ونبيذَ آلهةٍ … / 
فيا مَوْتُ ! انتظرني ريثما أُنهي 
تدابيرَ الجنازة في الربيع الهَشّ ، 
حيث وُلدتُ ، حيث سأمنع الخطباء 
من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين 
وعن صُمُود التينِ والزيتونِ في وجه 
الزمان وجيشِهِ . سأقول : صُبُّوني 
بحرف النون ، حيث تَعُبُّ روحي 
سورةُ الرحمن في القرآن . وامشوا 
صامتين معي على خطوات أَجدادي 
ووقع الناي في أَزلي . ولا 
تَضَعُوا على قبري البنفسجَ ، فَهْوَ 
زَهْرُ المُحْبَطين يُذَكِّرُ الموتى بموت 
الحُبِّ قبل أَوانِهِ . وَضَعُوا على 
التابوتِ سَبْعَ سنابلٍ خضراءَ إنْ 
وُجِدَتْ ، وبَعْضَ شقائقِ النُعْمانِ إنْ 
وُجِدَتْ . وإلاّ ، فاتركوا وَرْدَ 
الكنائس للكنائس والعرائس / 
أَيُّها الموت انتظر ! حتى أُعِدَّ 
حقيبتي : فرشاةَ أسناني ، وصابوني 
وماكنة الحلاقةِ ، والكولونيا ، والثيابَ . 
هل المناخُ هُنَاكَ مُعْتَدِلٌ ؟ وهل 
تتبدَّلُ الأحوالُ في الأبدية البيضاء ، 
أم تبقى كما هِي في الخريف وفي 
الشتاء ؟ وهل كتابٌ واحدٌ يكفي 
لِتَسْلِيَتي مع اللاَّ وقتِ ، أمْ أَحتاجُ 
مكتبةً ؟ وما لُغَةُ الحديث هناك ، 
دارجةٌ لكُلِّ الناس أَم عربيّةٌ 
فُصْحى/ 
.. 
.. ويا مَوْتُ انتظرْ ، ياموتُ ، 
حتى أستعيدَ صفاءَ ذِهْني في الربيع 
وصحّتي ، لتكون صيَّاداً شريفاً لا 
يَصيدُ الظَّبْيَ قرب النبع . فلتكنِ العلاقةُ 
بيننا وُدّيَّةً وصريحةً : لَكَ أنَتَ 
مالَكَ من حياتي حين أَملأُها .. 
ولي منك التأمُّلُ في الكواكب : 
لم يَمُتْ أَحَدٌ تماماً ، تلك أَرواحٌ 
تغيِّر شَكْلَها ومُقَامَها / 
يا موت ! ياظلِّي الذي 
سيقودُني ، يا ثالثَ الاثنين ، يا 
لَوْنَ التردُّد في الزُمُرُّد والزَّبَرْجَدِ ، 
يا دَمَ الطاووس ، يا قَنَّاصَ قلب 
الذئب ، يا مَرَض الخيال ! اجلسْ 
على الكرسيّ ! ضَعْ أَدواتِ صيدكَ 
تحت نافذتي . وعلِّقْ فوق باب البيت 
سلسلةَ المفاتيح الثقيلةَ ! لا تُحَدِّقْ 
يا قويُّ إلى شراييني لترصُدَ نُقْطَةَ 
الضعف الأَخيرةَ . أَنتَ أَقوى من 
نظام الطبّ . أَقوى من جهاز 
تَنَفُّسي . أَقوى من العَسَلِ القويّ ، 
ولَسْتَ محتاجاً - لتقتلني - إلى مَرَضي . 
فكُنْ أَسْمَى من الحشرات . كُنْ مَنْ 
أَنتَ ، شفَّافاً بريداً واضحاً للغيب . 
كن كالحُبِّ عاصفةً على شجر ، ولا 
تجلس على العتبات كالشحَّاذ أو جابي 
الضرائبِ . لا تكن شُرطيّ سَيْرٍ في 
الشوارع . كن قويّاً ، ناصعَ الفولاذ ، واخلَعْ عنك أَقنعةَ 
الثعالب . كُنْ 
فروسياً ، بهياً ، كامل الضربات . قُلْ 
ماشئْتَ : (( من معنى إلى معنى 
أَجيءُ . هِيَ الحياةُ سُيُولَةٌ ، وأَنا 
أكثِّفُها ، أُعرِّفُها بسُلْطاني وميزاني )) .. / 
ويامَوْتُ انتظرْ ، واجلس على 
الكرسيّ . خُذْ كأسَ النبيذ ، ولا 
تفاوِضْني ، فمثلُكَ لا يُفاوِضُ أَيَّ 
إنسانٍ ، ومثلي لا يعارضُ خادمَ 
الغيبِ . استرح … فَلَرُبَّما أُنْهِكْتَ هذا 
اليوم من حرب النجوم . فمن أَنا 
لتزورني ؟ أَلَدَيْكَ وَقْتٌ لاختبار 
قصيدتي . لا . ليس هذا الشأنُ 
شأنَكَ . أَنت مسؤولٌ عن الطينيِّ في 
البشريِّ ، لا عن فِعْلِهِ أو قَوْلِهِ / 
هَزَمَتْكَ يا موتُ الفنونُ جميعُها . 
هزمتك يا موتُ الأغاني في بلاد 
الرافدين . مِسَلَّةُ المصريّ ، مقبرةُ الفراعنةِ ، 
النقوشُ على حجارة معبدٍ هَزَمَتْكَ 
وانتصرتْ ، وأِفْلَتَ من كمائنك 
الخُلُودُ … 
فاصنع بنا ، واصنع بنفسك ما تريدُ 
..